قضية الحرية أعمق من كل تناول وأعقد من كل تصور، ولا سبيل إليها إلا بها. وقد لفت نظري على صفحات "الأحرار" (عدد1-3- 1982) مقال أمين عن كاتبة أدبية مرهفة الحس (صافيناز كاظم) ترد فيه على قلم عربي ناقد صحفي شاعر (عبد الله الجفري) وبدا لي موقف الكاتبة شديد الإخلاص بالغ الشرف، فقد استطاعت أن تقول كلمة حق متواضعة، وأن ترى أبعد من قضبان اللحظة، وأعدل من خوف السلطة!!!
والظاهر أن الفرصة سانحة -أكثر من أزمان أخرى: سابقة، وربما لاحقة -لنحاول من جديد تحديد مساحة الحركة المتاحة إلى ذلك هو أن ننظر فيما حولنا لنرى أصناف المعروضات الفكرية حدودها وطبيعتها، فتستطيع بجهد صعب أن نميز ثلاث مناطق (ليست جغرافية بالضرورة رغم الأسماء)
الأولى: ونسميها المنطقة البيروتيه (وتشمل باريس ولندن العريقتين) حيث يسمح فيهما بنشر أي شيء وكل شيء بما يشمل الفخر والمديح والهجاء والإلحاد والثورة وزخارف الكتب المقدسة ..الخ، وهذه المنطقة "أروج" أسواق الفكر وكأنها تمثل "سوبر ماركت الفكر العربي المعاصر"
(ملحوظة: لا يعوق هذا النشاط، بل ربما تغذيه حمامات الدم والتصفيات الجسدية وتعدد الفرق.. مما يحتاج للتأمل.. تأمل!)
أما المنطقة الثانية: فيمكن أن تمثلها المنطقة الخليجية التقليدية، وهي التي تسمح بتصدير واستيراد الفكر، فتتحدث عن "الحرية للتصدير" دون المساس بالنظم المحلية وتستجلب التراجم والأفكار العلمية للديكور والإفادة الجادة أحيانا، هي تستغرق في الإتقان اللفظي وتتصف بالحذق والصقل في أغلب الأحيان، لكنها لا تمس القضايا التنويرية الأساسية اللهم إلا في إطار تاريخي أو تجديد سلفي.
أما المنطقة الثالثة: ويمكن تسميتها بالمنطقة الأيديولوجية (البعثية أو اليسارية) -وهي تشمل دعاة يتحدثون بلهجات مختلفة، ولكن بنفس درجة الصياح والحماس، وتمثلها سوريا وربما العراق، وليبيا وربما الجزائر وهي تسمح بالحرية في اتجاه واحد.
والعقل العربي -رغم كل ذلك أو بسببه -يرزح تحت قيود داخلية تمنعه من الحركة الحقيقية لمحاولة الإبداع.. فالتنوير.
وحتى النشر المتلاحق في المنطقة الأولى لا ينبع غالبا من دفع حضاري مغامر متجدد، وإنما من فرص تجارية تغذي احتياجات اغترابات ثقافية منسلخة، لا يمكن أن يتحرك الوعي وتغير نوع الوجود العام ما لم تصبح معايشة كيان لا بريق فكر، ومعاناة مخاض لا ديكورات عقل، وانتشار موجات الوعي للإفاقة لا مبارزات هجاء وفخر.
والحديث عن القيود الخارجية من قهر وسلطة ومال وسياسة حديث صادق ومفيد، إلا أن هناك قيودا داخلية (هي تراكمات من الخارج لا محالة ولكن من تاريخ قديم) لابد وأن نلتفت إليها حتى لا نستبدل بسلطة المال سلطة الدولة أو العكس دون أي سعي حقيقي نحو الحرية.
وقد تصورت قانونا داخليا يحكم العقل العربي، ولنسمه "قانون الطوارئ الفكري المزمن" وهو يحدد المحظورات التي ينبغي تجنبها وإلا.. وإليكم نص مواده:
تمهيد:
رغم الإطلاع على الظروف الخطيرة التي تتحدى البشرية المعاصرة في كل مكان، وفي العالم العربي بشكل أخطر وأخفى معا واطمئنانا إلى أبيات عمودية من الشعر العربي المقفى وإلى نسبة حضور "المتحدثين" في كل مكان وصحيفة، ورضا عن عدد المؤتمرات والندوات والتوصيات المتواصلة، قررنا الإلزام والالتزام بكل ما هو "ساكن" مهما تغيرت الأسماء، ولتحقيق ذلك :
مادة (1) عن الدين:
يحظر التفكير في الدين أصلا الا في حدود التفسير المعلن والثابت والمجمع عليه، ولتأكيد هذا الحظر ينبغي أن يعلن كل مناور -يمينا أو يسارا - ادعاء تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا لا يعني حظر خرق القيم الدينية "سلوكا سريا" ما دام ذلك لا يخل بنظام الدولة.
مادة (2) عن الصفوة:
يمنع منعا باتا أن يعلن أي فرد أنه أحسن من أي فرد من مجموع العامة، بمعنى أنه يحظر الانتماء للصفوة حتى لو كانت هذه الصفوة صفوة فكرية أو حضارية , ولكن يسمح لكل "من يقدر " , وذلك في أي مجال من ألعاب القوى السلطوبة : الحزبية والدينية والاقتصادية.
مادة (3) عن الإشراكية:
يعتبر مخلا بالعرف والخلق والأصول والسياسة ومفشيا للسر كل من تطاول على ما يسمى الإشراكية، وذلك تأكيدا للتسوية السرية بين صراع النظم الاقتصادية وحتى يتم النمو الاقتصادي بالشطارة التلقائية في الواقع العملي سواء عن طريق أوهام كراسي السلطة أو ألاعيب سماسرة البورصة.
مادة (4) عن الديمقراطية:
على نفس القياس، يمنع تماما وكلية المساس بكلمة الديمقراطية ويلتزم أي نظام ملكي أو عائلي أو شمولي بوليسي أو فردي دكتاتوري أو انتخابي قبلي أن يسمي نفسه ديمقراطيا، ولا يختلف في ذلك من لا يعني ما يدعيه عن من ينوي صراحة ضرب الديمقراطية في صميم قلبها بعد توليه السلطة التنفيذية.
مادة (5) حول ذات أي رئيس:
غير مسموح أصلا، وتحت أي عنوان، أن يوجه النقد المحلي إلى رئيس محلي، ما دام هذا الرئيس في كرسي السلطة، ونحن يمكن أن ننقد بإذن الله بأثر رجعي بعد وفاته. أو في القليل بعد انتهاء مدته وهذا احتمال نظري في عالمنا العربي فإذا كان ذا شعبية ممتدة بعد الموت، يكتفي بنقد أي بطانة أو مراكز قوى دون شخصه. ولكن يسمح بنقد رؤساء الدول الأخرى حسب حجم الديون واتجاه الرياح السياسية.
مادة (6) حول الثورية:
محظور على كل مفكر كائنا من كان أن يجرؤ فيتصور أي حل حضاري سوى الحل الثوري، ويا حبذا العنيف، وكل من يجرؤ على التطاول على هذا الحل (مهما برر تطاوله بمحاولة استيعاب تلاحق خطى العصر التكنولوجي التي تتحدى -أصلا -إيقاع الثورات التقليدية، يعتبر ضعيف العقل أو صاحب غرض دوني أو على أحسن الفروض جبانا رعديدا.
مادة (7) عن الأرقام العلمية وقداسة التخصص:
لا يجوز استعمال المنطق السليم أو المنطق العام أو الحدس الشعبي أو حكم التاريخ في مواجهة أرقام تخرج من مراكز علمية متخصصة، حتى لو أدت مثل هذه الأرقام إلى الانحلال أو الانقراض، وذلك حرصا على قداسة الجالسين في محراب الكهانة العلمية والتكنولوجية المعاصرة.
خاتمة:
يعمل بهذا القانون بأثر رجعي من أول منحدر التخلف ويستمر العمل به لحين نفاد البترول الخام وتمام الاستسلام للاستعمار العقلي القادم ولا ينسخ هذا القانون إلا فصل حضاري شامل أقوى من كل بنوده.
وبعد..
فإن مصر بوضعها الفكري غير البيروني أو الخليجي أو البعثي لتستطيع أن تنتهز الفرصة الحالية لتتخطى كل هذه المحظورات في مسئولية مناسبة فترى من واقع تاريخها وقدرات أبنائها لترى من حولها إلى نهاية العالم فهي قد غامرت بمخاطر السلام، ويمكن أن تتمتع بالاستقرار، وأن تنمي الحوار، وأن تدفع بالاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة والسياحة)
لتتحرك العقول فاتحة أبوابها لكل كلمة وخلاف وإيمان وإلحاد مادام الدافع ورائها هو الإخلاص والمثابرة، والفرص أمامها ممكنة ومستمرة، وبهذا وحده نستطيع أن نجني ثمرة ثورة يوليو -مايو -وأن نتحمل مسئولية قدر سبتمبر -أكتوبر -وإلا، فكل تقدم ظاهر هو مضروب مضروب، وأنا لا أتصور أن هذا الجهاد الشامل والأكبر إلى الحرية المسئولة المعطاء لهو أخطر وأصعب ألف مرة من صراع القوى الحكومية في التنافس لشراء أطنان من الأسلحة لا نملك منها إلا حق الرقبة دون المنفعة.
نشرت في الأحرار بتاريخ 10/5/1982
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
اقرأ أيضاً:
المسيح يصلب من جديد / عن الثورة والنظرية والأيديولوجيا والدين