كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أعراض المس واللبس الشيطاني وعلاقتها بالاضطرابات النفسية، وانتشر الجدل بين أنصار الطب وأدعياء العلم و"المعرفة" بشئون الجان والعفاريت. والواقع أن الأمر قد أثار اهتمامي منذ أمد بعيد بحكم اشتغالي بالطب النفسي وتخصصي في ممارسته، ولم أكتف في هذا الصدد بالمعتاد من إنكار الأطباء لغير ما تعلموه من الحقائق العلمية، وسخريتهم من بسطاء الناس المؤمنين بالسحر ومس الجان، والذين يقابلون هذه السخرية بالشك في إيمان الأطباء، والرثاء لحالهم المتأثر بالثقافة الغربية العلمانية، وبهذا تضيع الحقيقة بين حزبين من الناس و"كل حزب بما لديهم فرحون".
أقول إنني لم أكتف بالنظرة السطحية، فحاولت أن أبحث في الأمر لأكون رؤية متواضعة قائمة على الجمع بين النصوص الدينية والحقائق العلمية، وكنت أكتفي ببيان هذه الرؤية لطلاب كلية الطب أثناء قيامي بمهمة تدريس مادة الطب النفسي بالكلية -وإن كانت خارج إطار منهجهم-، وللمرضى الذين يتساءلون عن حقيقة أمراضهم وطبيعة دوائهم الشافي بإذن الله، أما وقد تجاوز الأمر قاعات الدرس وغرف الكشف إلى وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، فقد رأيت أن أوجز هذه الرؤية وأعرضها للمناقشة.
فأقول وبالله التوفيق:
أولا: إن وجود الجن في حد ذاته حقيقة معلومة من الدين بالضرورة، بل إن هناك سورة كاملة في كتاب الله عز وجل مسماة باسم "الجن"، والجن كائنات مستورة عن أعين الناس، وأصل التسمية من جن أي ستر، ومن الجن مؤمن وكافر، والجن الكافر بنعمة الله هم الشياطين.
ثانيا: إن الشيطان قد أقسم وتعهد بإغواء بني آدم وحثهم على الشر والعصيان. وإن الله عز وجل قد أمهله وذريته إلى يوم القيامة، كجزء من الامتحان الرباني لبني آدم في الدنيا، و لم يسمح عز و جل للشيطان بأن يكون له سلطان –أي تحكم وإجبار– على بني آدم خاصة المتقين منهم، "إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مؤمنون" (النحل 99–100)، بل إن الشيطان ذاته يتبرأ من حوله وقوته حين يجتمع بأوليائه في النار ويصرح بأنه لم يكن لديه أي قوة غير مجرد الدعوة إلى الشر، و يتبرأ من مسئولية هذا الشر الذي يقع من هؤلاء الذين يستجيبون لدعوته بمحض إرادتهم.
ثالثا: إن النصوص الشرعية من القرآن والسنة قد صرحت بجانب آخر من العلاقة المحتملة بين الشيطان والإنسان، وهو مس الشيطان للإنسان بأذى، سواء أكان هذا الأذى مجرد رغبة من الشيطان نفسه أو بتسليط من إنسان آخر فيما يعرف بالسحر، و قد صرح القرآن بكفر من يشتغل بهذا العمل، لأنه إنما يسخر الجن الكافر ولا يستطيع ذلك إلا بكفره أولا ليرضى عنه سيده، كما صرح القرآن بأن هذا الأذى لا يمكن أن يحدث إلا بإذن الله كابتلاء للعبد الذي يقع عليه هذا الأذى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" (البقرة– 102).
رابعا: إن الأذى المحتمل الذي تحدثت عنه الآيات والأحاديث ليس مقصورا على الأمراض النفسية، بل امتد ليشمل أعراض مختلفة تتوزع على تخصصات متعددة من الطب، فقد تحدث القرآن على لسان أيوب عليه السلام عن ابتلائه المعروف على أنه مس من الشيطان" واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب" (ص–41)، ومن المعروف أن مرض سيدنا أيوب كان مرضا جلديا يعرف علميا بمرض ذي الفقاع، كما رد النبي –صلى الله عليه وسلم– على الصحابية التي جاءت تشكو إليه من النزيف الرحمي في غير موعد الدورة الشهرية (الاستحاضة) بقوله: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان ..". (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني)، تماما كما وصف القرآن الكريم المرض العقلي في بعض ظواهره بقوله تعالى: "كالذي يتخبطه الشيطان من المس" (البقرة–275)، والعجيب أن أحدا لا يدعو أصحاب الأمراض الجلدية أو النساء الشاكيات من النزيف الرحمي إلى اللجوء إلى "المشايخ" و"العارفين" ببواطن الأمور للعلاج من أمراضهم كما يتم التشهير بالمرضى النفسيين على الشاشات ودعوتهم لهجر الطب والوقوف على أبواب المشعوذين.
خامسا: إن التعامل مع أي ظاهرة لابد أن يكون مستندا إلى دليل علمي، وبما أن الله عز وجل قد اختص بعلم الغيب وحجبه عن الإنسان، فإن المصدر الوحيد للعلم في هذا الجانب يجب أن يكون النصوص الشرعية –أي الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة، ويضاف إلى ذلك الأدلة العلمية المبنية على المشاهدة والتجربة في عالم الشهادة، ولا يمكن أن يحدث تصادم بين النصوص الشرعية الصحيحة والأدلة العلمية الثابتة، وإن حدث ذلك فلابد من وجود خطأ ما إما في فهم النصوص أو في تطبيق النظريات العلمية.
سادسا: إن كثيرا ممن تصدوا –ولا زالوا– لهذا الأمر يرهقون أنفسهم في وصف أعراض معينة تفرق بين المرض والمس كنوع من "التشخيص التفريقي" حتى صار الأمر محتاجا إلى اختبارات روحانية لتشخيص المس أو استبعاده، والواقع أن هذه الأعراض والاختبارات لا تستند إلى أي دليل شرعي أو علمي، كما أن التقسيم في حد ذاته يفتقر إلى السند والدليل، فلا تعارض في الحقيقة بين كون الأذى الواقع على الإنسان هو من مس الشيطان وبين كونه مرضا يتداوى منه بالدواء المعروف بين الأطباء. وكما أسلفنا فقد صرح القرآن والسنة بوجود دور للشيطان في أمراض معروفة تعالج يوميا بالأدوية الطبية، مما يدل على إمكانية تفسير الظاهرة الواحدة بتفسير غيبي وآخر علمي، بل إن هذا ربما يكون السبب وراء سؤال الصحابة للنبي –صلى الله عليه وسلم– عن التداوي في الحديث المشهور، حيث تبادر إلى ظنهم أن الإيمان يتناقض مع اللجوء إلى الأدوية، وأن عليهم الاكتفاء بالدعاء والرقية الشرعية في دفع الأذى عن أبدانهم، فبين لهم الرسول –صلى الله عليه وسلم– أن لا تعارض بين الأمرين، عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قَالَتْ الأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: (نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ) . رواه الترمذي وصححه الألباني، و الهرم هو الشيخوخة.
سابعا: إنه لما كانت الظاهرة المرضية مزدوجة في طبيعتها، بين جانب غيبي يتم التعامل معه بالدعاء والرقي، وجانب علمي يتم التعامل معه بالطب والدواء ، فإنه يجب الجمع بين الأمرين في التعامل مع كل مرض، وليس المرض النفسي فحسب،وإنما يكون ذلك من باب الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب في كل أمر من أمور الحياة، فليس من المعقول أن ينوي الإنسان السفر فيدعو الله بدعاء السفر ثم لا يركب السيارة أو القطار، وليس من المعقول كذلك أن نقرأ على مريضنا الرقية الشرعية ثم لا نطلب له الطب والدواء ولا نعرضه على الطبيب المختص.
وقد يسأل هنا سائل: لماذا يسرف الناس إذن في تفسير ظواهر الطب النفسي وأعراضه بالتفسيرات الغيبية والشيطانية، ولا نرى مثل ذلك في غيره من التخصصات؟ والإجابة ببساطة أن الناس أعداء ما يجهلون، وكلما زاد غموض الأعراض وقل وعي الناس بطبيعتها وتفسيرها كلما زاد ميلهم إلى التفسيرات الغيبية والعلاجات السحرية، ومن المعروف أن الطب النفسي هو من أقل تخصصات الطب تقدما وأكثرها غموضا حتى الآن، وذلك نظرا لطبيعته التي تتعامل مع أدق وظائف الكائن البشري وأكثرها تعقيدا، من أفكار ومشاعر وسلوكيات. وإن مجرد مقارنة بسيطة بين مقدار فهم البشرية لكيفية عمل المخ البشري في تلك الوظائف وبين فهمها لكيفية عمل الجهاز الهضمي مثلا في هضمه للطعام لتكشف مقدار البون الشاسع بين الطب النفسي –المبني على هذا الفهم– وبين نظيره من التخصصات الأخرى. ومن الملاحظ أيضا أن مثل تلك التفسيرات والعلاجات المبنية على مزيج من الدين والخرافة كان شائعا في معظم تخصصات الطب حتى القرن الماضي، وهناك قصة شهيرة تحولت إلى فيلم هي قصة "قنديل أم هاشم" تدور أحداثها عن استخدام زيت القنديل المستخدم في إضاءة مقام السيدة نفيسة في علاج الرمد، وأذكر أن أحد أقربائي الطاعنين في السن قد روى لي في صغري وقبل وفاته –رحمه الله– كيف أنه في عام 1919 وقع من على متن حماره وأصابه ما يشبه الانزلاق الغضروفي، ولم يكن هناك علاج جراحي متاح في تلك الأيام، فكان العلاج المعروف والمعمول به في قريته حينها أن يحمل إلى مقام "سيدي فلان" حتى يقوم بلعق بلاط المقام بلسانه عددا معينا من المرات حتى يشفى!!
ثامنا: إن التعامل مع الجانب الغيبي من المرض النفسي أو غيره من الأمراض يجب أن يتم –كما أسلفنا- في إطار ما ورد في الآيات والأحاديث الصحيحة، والذي يقتصر على قراءة الآيات والأحاديث المختارة والتي صح أثرها في طرد الجن والشياطين والوقاية من أذاهم، كالفاتحة وآية الكرسي والمعوذتين، والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه للمريض. ولا يشتمل ذلك على قراءة القرآن على الماء والاغتسال به، أو طلب أعشاب معينة، أو ضرب المريض لإخراج الجان من جسده!! أو غير ذلك من الخزعبلات التي لا أساس لها، وعلى من يريدون إقناعنا بهذه الوسائل أن يأتوا لنا بآية من القرآن أو حديث صحيح يخبر بأنها فعالة في مداواة المرضى، وسوف يجدوننا أسبق الناس إلى وصفها لكل مريض.
تاسعا: إن التداوي بالرقى الشرعية هو من باب الدعاء، وقراءة القرآن على المريض –إلى جانب ما للقرآن من تأثير إيجابي على نفس المؤمن بتدبره في معانيه– هو من باب التوسل بالأعمال الصالحة رجاء إجابة الدعاء، ومن المعروف أن باب الدعاء مفتوح لكل مؤمن، ولا يرجى استجابة الدعاء من أحد معين إلا بمقدار ما يظن من صلاحه وقربه من الله عز وجل، والصلاح والقرب من الله عز وجل هو سر بين العبد ومولاه، لا يجوز الحكم به أو ادعاؤه لا من الشخص نفسه ولا من غيره، فالله عز وجل يقول: "فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى"، وإننا وإن سلمنا بجواز دعاء المريض لنفسه أو طلبه الدعاء والرقية من أهله وقرابته ومن يظن صلاحه ويحسبه على خير، فإننا لا نسلم على الإطلاق بجواز تسمية شخص بعينه "يحسن" شفاء المرضى برقيهم والدعاء لهم، فإن في ذلك تزكية لهذا الشخص بما لا يعلمه إلا الله، وباب للوساطة بين العبد وربه لا تجوز في الإسلام، وكم سمعنا من البسطاء في وصف "المشايخ" وصلاحهم وتقواهم التي تؤهلهم لشفاء المرضى، فهذا صائم منذ عام لا يفطر، وهذا قد أسلم على يديه ألف من الجان، إلى آخر هذا الهراء الذي يفتح بابا أشبه ما يكون بباب عبادة "الأولياء" والتبرك بهم، وليس بين أولئك "المعالجين" "العارفين" وبين "الولاية" إلا أن يموت أحدهم فيبنوا له مقاما!!
وقد يقول قائل إن العلاج بالقرآن والرقى "علم" قد أعطاه الله لمن اختارهم، ونحن نسأل ببساطة: ما هي مصادر هذا العلم؟ وما وسيلة تعلمه؟ وما هي الجامعة التي تمنح شهادة معتمدة لمن تعلمه كي تمنع الأدعياء من خداع الناس به؟ فإن كان هذا العلم مقتصرا على الآيات والأدعية المأثورة التي تحدثنا عنها فهذه من المسائل المشهورة التي يعلمها كل مهتم بدينه، وإن كان مشتملا على غيرها من دقائق الأمور فأين هي؟ وما مصادرها وأدلتها الشرعية أو العقلية أو العلمية؟ أم أنها تنتمي إلى طائفة "العلم اللدني" الذي حجبه الله عن خلقه وأتاحه لأولئك المختارين من أشباه الأنبياء؟ هل كتم رسول الله –صلى الله عليه وسلم وحاشاه– هذا العلم عن أمته وتركه سرا "للعارفين" ببواطن الأمور؟ الواقع أن الإجابة على كل هذه الأسئلة هي بالنفي القاطع، فلا وجود لمثل هذا العلم إلا بالقدر الذي تتيحه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة المتاحة لكل مسلم يقرؤها على نفسه ويدعو بها ربه ويحمي بها نفسه من كيد الشيطان وأذاه.
والخلاصة أن الشيطان قد يؤذي الإنسان في بدنه أو عقله، وقد يكون له دور لا نعلم ماهيته في الأمراض والأدواء المعروفة وغير المعروفة، والعلاج في ذلك إنما يكون باللجوء إلى الله عز وجل بالأدعية والرقى الشرعية المأثورة دون وساطة من أحد، والثقة في حوله وقوته سبحانه وإنه لا يكون في كونه إلا ما شاء وقدر، ثم بسؤال أهل الذكر في هذا الشأن من الأطباء المختصين بعلاج هذه الظاهرة المرضية، والتداوي بالأدوية المعروفة والمجربة، ولا يجوز اللجوء إلى شخص بعينه يعرف بالعلاج الروحاني وما شابه، فإن التقوى والصلاح مردها إلى الله عز وجل، كما لا يجوز التداوي بأي وسيلة روحانية لم يرد ذكرها صريحا في القرآن ولا في السنة، ولا يجوز الاستغناء بالدعاء والرقى عن الطب والتداوي في أي ظاهرة مرضية كانت، فإن ذلك مخالف لصحيح القرآن والسنة قبل مخالفته لأدلة العلم والطب، والله أعلى وأعلم.
واقرأ أيضًا على مجانين:
حقيقة الجن والرقى الشرعية / المس واللبس والسحر في العيادة النفسية / المس الجني / فيلم هندي أم زواج إنسية من جني؟ / أود أن أرى الجن
التعليق: أولا أشكر للدكتور الفاضل عقليته المتفتحة التي تجمع الدين والعلم والعقل وهذه فعلا حقيقة الإسلام التي أحسب أن طبيبنا الفاضل أدركها بفهم عميق..لكن هناك ملاحظة تمنيت أن لا ينزلق إليها دكتورنا وهي الإفتاء حيث قال:
"ولا يجوز اللجوء إلى شخص بعينه يعرف بالعلاج الروحاني وما شابه" فهذه فتوى تحتاج متخصصي العلوم الشرعية المؤهلين للإفتاء صحيح أن مسألة الصلاح والتقوى من الأمور التي لا يعلمها على وجه القطع واليقين إلا الله، ولكن نحن البشر مضطرون للتعامل على وجه الظن والترجيح من أمارات وقرائن الأحوال والسيرة والسلوك ولعل هذا سر قوله صلى الله عليه وسلم بعد النهي عن المدح والتزكية: "إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ، وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا" صدق عليه الصلاة والسلام
تحتاج للتزكية في الاستفتاء وفي أخذ العلم والحديث وغير ذلك، ولا أحد يقول أن الاستفتاء أو رواية الحديث لا تجوز لأن فيها تزكية
هذا ولم أورد لك الآثار التي ربما تدل على جواز طلب من يرقي ومنها قصة الغلام وأصحاب الأخدود