في نفس الإنسان غرائز كثيرة ولكن أحد علماء النفس حاول أن يختصرها في غريزتين رئيستين هما: غريزة الحياة وغريزة الموت, وهاتان الغريزتان تتفاوتان ضعفا وقوة في نفس كل إنسان بل تتفاوت قوتهما وضعفهما في الإنسان الواحد من وقت لآخر ومن مكان لآخر حسب التركيبة الداخلية للنفس البشرية وما يعتريها من تقلبات وأيضا حسب الأحوال الخارجية المحيطة.
وغريزة الحياة محورها الحب ويتفرع منه الحنان والمودة والرحمة والتسامح والتكافل والصداقة والتزاوج والرعاية والعمران والإبداع والتطور, أما غريزة الموت فمحورها الكراهية, ويتفرع منها الصراع مع النفس والصراع مع الآخر, والرغبة في التدمير والغيرة والحقد والانتقام والثأر واحتقار الآخر وتشويهه والكبر والعنصرية. وغريزة الحياة نشأت في العلاقة بين آدم وحواء واستمرت الحياة تنمو وتتطور وتزدهر بها, أما غريزة الموت فقد ظهرت لاحقا في الصراع بين الأخوين قابيل وهابيل وانتهت بقتل هابيل, ولحسن الحظ أن غريزة الحياة أسبق وأقوى من غريزة الموت وإلا لانتهت الحياة على سطح الأرض.
وفي أوقات السلم تزدهر غريزة الحياة وتتفتح معها الرغبة في الحب والاقتراب وإعمار الحياة بكل ما تعنيه الكلمة, أما في أوقات الصراعات الأهلية والانقسامات المجتمعية والثورات والحروب فتزداد وتقوى وتتوحش غريزة الموت ويدخل الناس في دوائر مغلقة من العنف والعنف المضاد والرغبة المزمنة في الثأر والانتقام . ويكتشف الإنسان بعد فترة من الحياة تحت مظلة غريزة الموت أنه لا يستطيع الاستمرار هكذا لأن ذلك يعني الحياة في خوف وقلق وغضب ومرارة وكراهية لكل شيء وهذا هو منتهى التعاسة للنفس البشرية , لذلك يحتاج لاستعادة قانون الحياة الذي افتقده لينعم بحالة السلام الداخلي والطمأنينة والسعادة والراحة والأمان , ولكي ينتقل الإنسان من دائرة غريزة الموت إلى دائرة غريزة الحياة يحتاج لقوة دافعة تتغلب على جاذبية غريزة الموت وتحركه عكس تلك الغريزة ليقترب من دائرة غريزة الحياة, تلك هي قوة التسامح التي تتغلب على ذكريات الماضي وجراحه وآلامه وتتغلب على الأنا المتضخمة التي تطلب الثأر والانتقام والغلبة والسيطرة والتحكم في الخصم أو الخصوم وتطلب العلو والفخر والتباهي بالانتصار .
ولما كان التسامح بحاجة إلى طاقة نفسية هائلة جاءت الأديان كلها لتمنح الإنسان هذه الطاقة, فقد ورد في القرآن الكريم "وإن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم"(البقره 237), "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره"(البقرة 109), "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة, ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"(فصلت 34), " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"(آل عمران 134), وعن ابن مسعود رض الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم, ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(متفق عليه).
إذن لا يقدر على التسامح غير النفوس الصافية التي اقتربت من روحانية طبيعتها بقدر ما ابتعدت عن طينية نشأتها الجسدية الشهوانية الطامعة والطامحة إلى محو الأعداء الحقيقيين والمتوهمين وإلى إسقاط كل الشرور والآثام والخطايا عليهم واستقبالهم ككيانات شيطانية لا يمكن التسامح معها بل لا يقبل غير حرقها بنار الكراهية والغل والضغينة. فلكي تكون قادرا على التسامح يجب أن تكون قادرا على أن تنسى الماضي الأليم بكامل إرادتك الحرة المستنيرة, وأن تحيا الحاضر وتستعد للمستقبل, وأن تقرر بألا تستمر في المعاناة الداخلية أكثر من ذلك, وأن تتخلى عن الرغبة في إيذاء الآخرين بسبب شيء حدث في الماضي.
التسامح هو أن تستعيد قدرتك على التعاطف والرحمة والحنان وأن تحمل الحب في قلبك مهما بدا لك العالم شريرا ومهددا, التسامح هو طريقك الوحيد للشعور بالسلام الداخلي والأمان الداخلي والرضا, إنه لحظة لقاء الإنسان بالجزء الصافي من روحه النقية قبل أن تلوثها شوائب الحياة - أي لقاء بالجوهر الأصيل النظيف في نفوسنا - وحين نلتقي بهذا الجوهر نكتشف أننا وصلنا إلى ما كنا نبتغيه من الهدوء وراحة البال, وأننا تخلصنا دفعة واحدة من مشاعر الكراهية والغضب والمرارة والألم, تلك المشاعر التي أحرقت قلوبنا لشهور أو لسنوات بلا جدوى.
التسامح هو جسر سحري نعبر عليه من عالم الصراع والسخط والكراهية والخوف إلى عالم الوئام والحب والأمان, هو رحلة من أطماع الأنا الضيقة الخانقة إلى اتساع العالم الجميل الذي منحنا الخالق إياه لننعم بكل خيراته.
ولما كان التسامح ثورة روحانية بيضاء على كل معاني الشر والكره والانتقام في النفس البشرية فإننا نتوقع ثورة مضادة تتهم المتسامح بالضعف والتخاذل والتفريط في الحق والاستسلام لقوى الشر .. وهذا ما سنناقشه في لقاء آخر إن شاء الله.
واقرأ أيضا:
الاستبداد صناعة الحاكم والمحكوم / جنون الحشيش