سبعة وأربعون عاماً مضت على النكسة التي تلت النكبة، وما زال الأمل بعيداً، والنصر ممنوعاً، والعودة صعبة، وتحقيق الأهداف ضربٌ من الخيال، وشكلٌ من الأحلام، وهزيمة العدو أملاً، ودحره عن أرضنا رجاءً، وما قد كان قبل عقودٍ ممكناً وسهلاً، قد غدا اليوم صعباً وأكثر تعقيداً.
في كل عامٍ نبتعد عن أهدافنا أكثر، وتتعقد قضيتنا، وتتشابك خطوطها، وتتوه معالمها، ويختلف أهلها، ويتنازع أبناؤها، وتتعارض فصائلها، وتتخاصم قواها، ويتهدد أرضنا خطر الاستيطان، وتواجه هويتنا مخاطر التهويد والتغيير والتحريف والتبديل والتزوير، وتتعرض مقدساتنا للتدنيس والتهويد، وتُصادر فيها حرياتنا، وتُقسّم مساجدنا، ويُحرم أهلنا من الصلاة فيها، أو الدخول إليها.
الإسرائيليون يبتهجون هذه الأيام التي حققوا فيها نصراً كبيراً على الجيوش العربية، واستولوا خلالها على مساحاتٍ كبيرة من أراضي أربع دولٍ عربية، وتمكنوا من احتلال الجزء الشرقي من مدينة القدس، وهي البقعة الأكثر قداسة، والتي فيها الأقصى والمسرى، وقبلة المسلمين الأولى، وأعلنوا توحيد المدينة المقدسة تحت سيادة الاحتلال، لتكون عاصمة كيانهم، وحجر الأساس لمملكتهم الثالثة، التي يحلمون ببنائها بعد استعادة هيكلهم المزعوم وجوده تحت المسجد الأقصى المبارك.
الإسـرائيليون فرحون بما آلت إليـه الأوضاع العربيـة الرسـميـة، وبما أصبح عليـه حال الأنظمـة والحكومات، ولسـان القادة والزعماء، وحقيقـة مواقفهم من دولـة الكيان؛ إذ لم يعد هناك من يُهدد وجودهم، ولا من يُبدي الاسـتعداد لقتالهم، أو يرغب في مواجهتهم، ولم يعد هناك قائدٌ عربي يُهدد برمي (إسـرائيل) في عرض البحر، أو يُهيئ جيـش بلاده لقتالهم، أو يُجهز ألويـة القدس وحطين وأجنادين وعين جالوت وبدرٍ لمواجهتهم، ولم تعد هناك دولُ مواجهـة، ولا جيوش تبني نفسـها اسـتعداداً للحرب.
(إسـرائيل) فرِحـة وسـعيدة بما حققت، إنها جذلى وطربـة بما ترى وتسـمع، وتكاد أجيالها الجديدة لا تُصدق الحال الذي وصل إليـه كيانهم، فهي تكاد تكون على وفاقٍ واتفاقٍ مع أغلب الدول العربيـة التي حاربتها، وبات يربطها بها اتفاقياتٌ دوليـة يصعب خرقها، وبنودٌ محصنـةٌ مكفولـةٌ لا تُنتهك ولا تُنقض، يرعاها الأمريكيون، ويعمل على الحفاظ على وجودها واسـتمرارها الأوروبيون وكبار اللاعبين الدوليين، الذين يحرصون على إحاطـة الكيان الصهيوني بكل رعايـةٍ واهتمام، لئلا يُعاني من عُزلـةٍ أو أزمـة، ولئلا يواجـه خطراً أو حرباً، بل يجب أن يكون دوماً من القوة والحصانـة الكافيـة لصد أي عدوان، ومواجهـة أي خطر.
قد يكون ما أوردت صحيحاً لجهة إحساس الكيان الصهيوني بالراحة تجاه الأنظمة العربية، التي أخذت على عاتقها محاربة أعداء (إسرائيل)، ومعاقبة كل من يُفكر بالمساس بها، أو تهديد أمنها، فهي تعتقل المناضلين والمقاومين، وتُحارب الداعمين والمناصرين، وتسجن الكُتاب والمفكرين، وكل من يعلو صوته بالدفاع عن فلسطين، أو يُطالب العرب بالقيام بواجبهم تجاهها، ما جعل الكيان الصهيوني يُبدي ارتياحه لإجراءات الحكومات العربية القاسية بحق كل من يُشكل تهديداً لها، فهي قد كفتهم مؤونـة الملاحقـة، ورفعت عن كاهلهم ضريبـة المواجهـة، بل إنها ترى أن الأنظمـة العربيـة أكفأ منهم وأقدر، وأن خطواتها أكثر نجاعـةً وأبلغ أثراً في اسـتئصال كل خطر، ومواجهـة كل عملٍ قد يُلحق ضرراً بهم.
لكن الجانب الآخر مختلفٌ تماماً، ومناقضٌ للأحلام الصهيونية، ومزعجٌ لقادة الكيان وحكوماته، فهو ليس كالجانب الرسمي المحكوم الخائف، المتردد الوجل، المرتبط المرتهن، الضعيف الوهن، الذليل التابع، الوضيع المهين، المستظل بغيره، والمستقوي بعدوه، الذي يخشى على مصالحه، ويظن أن الحفاظ على مناصبه لا يكون إلا بمهادنة العدو ومصالحته، والصمت على جرائمه، والجُبن عن مواجهته، وتسخير النفس لخدمته، والقيام على شؤونه، ففي رضاه رضا أمريكا والغرب، وإن سخط الكيان عليهم فإن العالمين سيكونون عليهم غضاباً، وحينها يا ويلهم، ويا لشؤم أيامهم، وبؤس مستقبلهم.
إن الطرف الآخر، الذي هو الشـعب والأمـة، والمقاومـة والصمود، واثقٌ مؤمنٌ، مسـتيقنٌ متأكد، قويٌ مكين، جريءٌ شـجاع، مقدامٌ غير هياب، ومزاحمٌ لا يتردد، ومهاجمٌ لا يتراجع، عزيزٌ كريم، حرٌ مسـتقل، رائدٌ قائد، أدرك أن الكرامـة في مواجهـة العدو، وأن العِزة في قتالـه، وأن الشـرف في منازلتـه.
إنها المقاومة التي أنهت سنين الذل، ووضعت خاتمةً لأحزان النكبة، ومصائب النكسة، فما عاد بعدهما في الأمة هزائم، ولا تمكن العدو من النيل من شعوبها بعد أن خضعت له رقاب الأنظمة يوم النكسة، وأذلّت نفسها لعدوها وهي القادرة على هزيمته.
فكانت معركة الكرامة بعد النكسة، صنعها رجالٌ مقاومون، وأبطال مقاتلون، بإمكانياتهم الذاتية، وأسلحتهم البسيطة، وإن ساندهم جيشٌ، وقاتل معهم فريق، فقد تمكنوا من كسر شوكة العدو الصهيوني، وهو الخارج لتوه متغطرساً منفوخ الأوداج، من حربٍ مكنته من ضم مساحاتٍ كبيرة من الأرض لكيانه، لكنه فوجئ بأن جيشه في أرض الكرامة قد تمزق، وأن جنوده قد تجنلدوا، ودباباته قد حُرقت وتبعثرت، وأدرك يقيناً أنه إن لم ينسحب ويتراجع، فإن المنتصرين سيتعقبون فلوله، وسينالون منه أكثر.
وبعد معركة الكرامة كان نصر أكتوبر العظيم، وزلزال رمضان المجيد، الذي صنعه المقاتل العربي الصلب العنيد، ومن بعده كانت مقاومة عربية وإسلامية في لبنان، مرّغت أنف العدو وصدعت رأسه، وتسببت له في نزفٍ دائمٍ لا يتوقف، وحسرةٍ باقية لا تُنسى، بانتصاراتٍ كبيرة حققتها عليه، أدمت قلب جيشه وضباطه، حتى اندحر ورحل، يائساً بائساً، مسربلاً بالدماء ومقطع الأوصال، ، ونالت منه عندما فكر في العودة والانتقام، فأوجعته بضرباتها المفاجئة، وقدراتها الفائقة.
وفي غزة كان نصر آخر، وإن كان موجعاً ومؤلماً، إلا أنه كان نصراً على العدو ناجزاً، أرغمه على الانسحاب، ثم منعه من تحقيق أهدافه بعد ذلك، وكلما حاول العودة ساخت أقدامه في رمال غزة، ودفع ضريبة تدخله وتوغله، قتلاً وأسراً وخوفاً ورعباً في المدن والمستوطنات.
سبعةٌ وأربعون عاماً مضت على آخر الهزائم، ومثلها مضت على أول الانتصارات على العدو، الذي بات يواجه شعباً مقاوماً، وإرادةً مقاتلة، ويقيناً بالنصر لا يتزعزع، وعقيدة في النفس لا تضعف، فلا نكسة لهذه المقاومة، ولا ضعف في إرادتها، ولا تراجع عن أهدافها، ولا تنازل عن ثوابتها، فهي الأقوى والأثبت، وهي الأمضى والأنضى، والأشد والأحد، فتمسكوا بها، ولا تُفرطوا فيها.
واقرأ أيضًا:
إسرائيل أم فلسطين على الخارطة السياسية/ دولة غزة حلمٌ إسرائيلي/ إسرائيل تستقوي بالعرب/ اهتزازات إسرائيلية خفية!/ البابا يعترف في بيت لحم