يقول زميلي العزيز: مالي أراك تحارب في معركة خاسرة، وقد انتهت؟؟!!
فيدفعني كلامه إلى التأمل في أية معركة أحارب؟؟ وهل حقا قد انتهت؟؟!!
ثلاثون عاما مرت منذ أن كنت رئيسا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، وعرفت وقتها أنني لا أعرف شيئا عن تاريخ بلادي، ولا عن واقعه، وأن حماس وطاقة شبابي تتبدد لأنها لا تجد المسارات، ولا تستنير بوعي يتكامل معها، بينما هي تتدفق بحب الحياة، والإقبال على مناشطها، لكن في غياب المعرفة والوعي يكون التشتت والتخبط والهدر والألم!!
عشرون عاما مرت منذ أن شاركت في مؤتمر الأمم المتحدة للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة، لأكتشف أنني ومثلي الأغلبية الساحقة ممن حولي لا ندري عن عصرنا شيئا، ولا عن العالم الذي نعيش ونتحرك فيه، وقد كنت أقرأ أن العاقل من عرف زمانه فاستقامت طريقته، ومن لم يعرفه بالتالي.. يترنح، ويضيع، ويفسد من حيث يعتقد أنه.. يصلح، أو يحسن صنعا!!
السير في الأرض، وتقليب الأفكار، والتعلم من الناس والأحداث، ومراجعة النفس، والاتصال بدروب وجهود الإحياء والإيقاظ والإنقاذ، وهي كثيرة في حياة البشر اليوم، كل هذا علمني أن معركتنا الأولى والأهم هي معركة الوعي!!
الفارق بين الإنسان وسائر الكائنات يكمن في الوعي المتفرد الذي يؤهله للمهمة التي ينفرد بها ويتميز عن سائر المخلوقات، وهي الخلافة عن الله في الأرض، ومن لوازمها الوعي بذاته، وبعالمه الذي يعيش فيه، وتقع عليه مهمة السعي لإعماره، ومحاولة إقامة العدل فيه، ومقاومة الظلم، ونصرة الحق، وبهذا المطلب والتكليف/ التشريف –وحده -هو إنسان، وليس حشرة، ولا شجرة، ولا ضمن قطعان الأنعام!!
لكن الإنسان الواعي معرفيا وروحيا ومجتمعيا.. هو مصدر إزعاج للسلطات، كل السلطات!! فهو لا يعجب والديه، ولا يعجب معلميه في الصف المدرسي، ولا يعجب كاهن الكنيسة، ولا شيخ المسجد، كما لا يعجب المتسلطون على رقاب الناس يسيطرون على أمورهم، ويسرقون أموالهم.. باسم إدارتها، ولذلك كان تغييب الوعي هو الشاغل الأهم والأخطر لكل هذه السلطات، تمارسه تحت لافتات ومسميات براقة، مضمونها واحد هو الإذعان لما يتلى عليك، ومقرر لك من طرق تفكير، وقرارات مصير، ونهج تدبير، ومسارات سعي!!
فلما خرجت الجموع رافضة متمردة.. بعضها بوعي، أو من خرجوا بغير وعي.. يستنكرون تغييب الوعي.. فزعت كل هذه السلطات جميعا:
"أولياء الأمور".. في بيوتهم، و"أولياء الأمر" في قصورهم، وثكناتهم، ومن يقودون الناس باسم الدين، أو باسم الدنيا، فهموا جيدا أن هذه الثورات هي عليهم، وضد سيطرتهم، ونفوذهم، وهيمنتهم، وأن قوة الناس في اجتماعهم هي تهديد مباشر لسلطانهم ووجودهم في مقاعدهم!!
والناس حين خرجت.. إنما كانت تحمل ما تربت وتبرمجت عليه من فرقة، وسطحية، ومعرفة هشة مضللة، وتغييب وعي، فهل حين نرى ذلك كله يتفاعل ويؤدي إلى نتائج هي بالتأكيد لن تكون سوى تحصيل حاصل، أو حصد للزرع البائس الذي ينغرس فينا لعقود طويلة، وهل حين توضع لنا المصائد فيسقط فيها الكثيرون بشكل متوقع، ومنتظر، وهل حين تنتج العقول الواهنة وهنا، وتتداول الجموع المتعاركة لغوا، ويتخبط من عاش عمره في الظلام حين يخرج إلى فضاء الكون، ويدخل في أسئلته، وصراعاته، وتنطرح عليه جملة واحدة كل ما تهرب منه سابقا، وتوهم أنه يعيش مستقرا سعيدا هانئا، بينما هو في عالم يمور بالأفكار، والتحديات، وكان يعيش فوق قشرة رقيقة صلبة منزلقة، تحتها بركان ثائر!!
هل إذا أدخلتنا ثورات الربيع العربي إلى التاريخ، وإلى العالم، بكل ما فيهما من اضطراب، وحيوية، وقد كنا خارج الزمان، والمكان، ويريد البعض عبثا أن يعيدنا إلى ما كنا، وما كان!
وهل حين تتكشف لنا جوانب الخلل فينا، وقد كنا نتواطئ على تمريرها، والتعامي عنها، والظن الفاسد بأننا على ما يرام، فإذا بأوهامنا يتتابع سقوطها سقوطا مدويا نلاحقه مبهورين، وهل إذا انفتحت أمامنا الآفاق، وتخففنا من قبضة السجان، وترنحت خطوات أقدامنا التي ألفت القيود، وأفكارنا التي حبستها الأوامر، ولوائح التحريم، وقسر الحجر على السؤال، والحوار المفتوح، هل إذا كنا نعيش هذا كله.. ويراد لنا أن نراه هزيمة!! فهل نراه هزيمة؟؟
أزعم أن كل عاقل –عقب كل مصيبة -إنما يتعظ، ويراجع مسلكه، وخططه، أفكاره وبرامجه، ويحصي أخطاءه، ويستشير القاصي والداني ليعرف مكانه وزمانه فتستقيم طريقته، فهل هذه الحالة تسمى "هزيمة"؟
وما الذي انهزم وينهزم فينا غير سوء التدبير، وغيبوبة الوعي الذي صار يطرق أبوابنا بقوة، ويسير هادرا في دروبنا، ويتسلل إلى بيوتنا، وعقولنا، وعقول أولادنا، بعد أن كنا محصنين أنفسنا ضده!! ضد الوعي!!
معاركنا بدأت من 25 يناير.. نحن المصريين، وكل العرب، والناس رجلان.. رجل نام في النور، ورجل قام في الظلام، والدنيا عندنا الآن نور لمن أراد أن يرى، ويراجع، ويتحول من حال إلى حال، وكل يختار ما يريد، والمرء حيث يضع نفسه!!
أية معركة تلك التي انتهت، وأغلب معاركنا الحقيقية لم يبدأ بعد!!
نقلا عن موقع مصر العربية
واقرأ أيضا:
التحرر من البرمجة/ حضرات السادة المثقفين