زرت هولندا أكثر من مرة، ولكن هذه المرة شاهدت مباراة كرة القدم في كأس العالم بين هولندا وأسبانيا حيث فازت هولندا بخمسة أهداف رائعة، وكانت مشاهدتي للمباراة في ساحة Musium Square حيث تجمع آلاف الهولنديين أمام ثلاث شاشات عملاقة يتابعون انتصارات فريقهم الرائع بالهتافات والتصفيق والغناء والرقص، ولم ألاحظ أي عنف أو تحرش ولم أرى إلا التزاما بالنظام والقانون والضوابط، وأكثرهم كان يرتدي تي شيرتات بلون برتقالي (اللون المميز للفريق الهولندي) مكتوب عليها "هولندا –كلنا معا" وقد حضروا إلى الساحة بدراجاتهم الأنيقة وانصرفوا بها دون أن يحدثوا أي تكدسات مرورية.
وتجربة الشعب الهولندي تستحق التأمل والتقدير، فأجدادهم كانوا منبوذين من ألمانيا ودفع بهم ليحرسوا السواحل الغربية على المحيط من طغيان البحر ومن هجمات الأعداء فكان أمامهم خياران إما أن يستمروا في مواجهة البحر الذي يكاد يبتلع الأرض التي يعيشون عليها (60% من أرض هولندا تحت سطح البحر ومهددة في أي وقت بالغرق) أو أن يعودوا إلى ألمانيا التي ترفضهم، وفي النهاية رضوا بالصراع مع البحر فراحوا يقيمون الحواجز والسدود ليصدوا مياه البحر التي تتربص بهم لتغرق أرضهم.
ولم يكتفوا بحماية أرضهم من فيضان البحر الذي يزداد يوما بعد يوم وإنما استطاعوا غزو البحر والانتصار عليه من خلال تجفيف مساحة كبيرة من البحر وتحويلها إلى محافظة كاملة في الشمال (محافظة إيلي) هي من أجمل الأماكن في هولندا، وقد استعانوا بطواحين الهواء المنتشرة عندهم لتوليد طاقة ينزحون بها مياه البحر ويلقونها خلف الحواجز والسدود الهائلة التي بنوها،
ثم قاموا بتجفيف المساحات التي اقتطعوها من البحر، ولما كانت تلك الأرض مالحة لا تصلح للزراعة لذلك استوردوا طميا من دول أوروبية أخرى ليصنعوا طبقة سمكها 7 سنتيمترات تمكنهم من زراعة الحشائش الخضراء والزهور، لذلك أصبح لديهم مساحات هائلة للرعي تكفي لأعداد كبيرة من البقر والحيوانات الأخرى وفي نفس الوقت مساحات هائلة لزراعة وتصدير الزهور. وصنعوا في هذه المحافظة المقتطعة من البحر قرية سياحية رائعة تسمى "فينيسيا هولندا" أو "فينيسيا الشمال" حيث تعتبر منتجعا سياحيا يحاكي فينيسيا إيطاليا ويستوعب أعدادا كبيرة من مواطني هولندا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا فضلا عن السائحين من كل أنحاء العالم، وهي مكان يفيض بالجمال والروعة حيث يحوي منازل خشبية رائعة محاطة بالخضرة والزهور يفصلها قنوات يتحرك فيها السكان والسائحين بقوارب جميلة.
والثروة الحيوانية هي إحدى معجزات هذا البلد، فالبقرة الهولندية تنتج في المتوسط 30-40 لترا من اللبن في اليوم الواحد فضلا عن كمية اللحم التي تحملها وتشكل مصدرا غذائيا كبيرا، وتقدر عدد الأبقار ب 12 مليون بقرة، وعدد الخنازير ضعف عدد السكان، وهذه الثروة الحيوانية الهائلة تجعل هولندا من أولى دول العالم في تصدير منتجات الألبان .
وقد استطاعوا التغلب على مشاكل الطاقة وخاصة توليد الكهرباء من خلال استخدام طواحين الهواء وهي منتشرة في كل مكان هناك، وهي تستخدم أيضا في الري والطحن وأنشطة أخرى كثيرة وهي غير مكلفة على الإطلاق وتشكل نوعا من الطاقة الطبيعية النظيفة والمتجددة، ولهذا لا تعرف هولندا تعبير انقطاع الكهرباء في أي لحظة.
وعلى الرغم من قلة المزارات السياحية في هولندا إلا أنهم يحسنون توظيفها فما من زائر يزور هولندا إلا ويأخذونه إلى مصانع الجبن ومصانع الأحذية الخشبية وقرية الصيادين وقرية فولندام السياحية وطواحين الهواء وفينيسيا هولندا، ولكن السائح يكون سعيدا بجمال الطبيعة ونظافة الشوارع والنظام العام هناك وطريقة التعامل الراقية والمهذبة والودودة. ولما كانت المياه تهاجم مدينة أمستردام من كافة النواحي لذلك حولوها إلى حوالي 880 نهرا أعطوا للمدينة سحرا خاصا وفي نفس الوقت استوعبوا المياه الزائدة في مسارات منتظمة يمكن التحكم فيها .
والتجربة الهولندية غاية في الثراء فقد استطاع المنبوذون أن يصنعوا وطنا جميلا ودولة مستقرة غنية، وبدلا من أن يجتروا أحزانهم ويندبوا حظهم ويتحدثوا عن الظلم الذي لحق بهم ويتحولوا إلى طاقة عنف وانتقام، اتجهوا إلى تشغيل العقول وتوظيف الملكات والقدرات وممارسة الإبداع الهندسي في السيطرة على مياه البحر التي تهاجمهم من كل مكان وفي كل لحظة، وأصبح لديهم أعظم خبراء في العالم في مجال بناء السدود وشق الأنهار والزراعة والثروة الحيوانية وصناعة الألبان والسياحة.
وهذا يأخذنا إلى أحوالنا في مصر حيث يستنزف الصراع السياسي والعقائدي قوانا ليل نهار في شكل عبثي لا ينتهي ونعيش مسجونين في شريط ضيق حول نهر النيل نعاني من كل مآسي الفقر والزحام والتلوث ونترك مساحات شاسعة من الأرض الصفراء محيطة بنا وخالية من البشر ولا نفكر في إعمال عقلنا لنغزوا هذه الصحراء ونصنع منها مساحات جديدة عامرة بالحياة وبالخضرة وبالصناعات وبالمدن الجديدة التي تتسع شوارعها وتتجمل مبانيها، ونعيش أزمة طاقة خانقة بينما لدينا مصادر للطاقة الشمسية وطاقة الرياح لم نفكر فيها حتى الآن. إننا نحتاج كثيرا للتجربة الهولندية ولكل تجارب الشعوب التي انتصرت على صراعاتها وعلى الصعوبات البيئية التي تهددها ولجأت إلى هندسة العقل وهندسة البيئة لتعيد تشكيل واقعها نحو الأنفع والأقوى والأجمل والأبقى. والحكمة دائما ضالة المؤمن والعاقل .
زرت هولندا أكثر من مرة، ولكن هذه المرة شاهدت مباراة كرة القدم في كأس العالم بين هولندا وأسبانيا حيث فازت هولندا بخمسة أهداف رائعة، وكانت مشاهدتي للمباراة في ساحة Musium Square حيث تجمع آلاف الهولنديين أمام ثلاث شاشات عملاقة يتابعون انتصارات فريقهم الرائع بالهتافات والتصفيق والغناء والرقص، ولم ألاحظ أي عنف أو تحرش ولم أرى إلا التزاما بالنظام والقانون والضوابط، وأكثرهم كان يرتدي تي شيرتات بلون برتقالي (اللون المميز للفريق الهولندي) مكتوب عليها "هولندا –كلنا معا" وقد حضروا إلى الساحة بدراجاتهم الأنيقة وانصرفوا بها دون أن يحدثوا أي تكدسات مرورية.
وتجربة الشعب الهولندي تستحق التأمل والتقدير، فأجدادهم كانوا منبوذين من ألمانيا ودفع بهم ليحرسوا السواحل الغربية على المحيط من طغيان البحر ومن هجمات الأعداء فكان أمامهم خياران إما أن يستمروا في مواجهة البحر الذي يكاد يبتلع الأرض التي يعيشون عليها (60% من أرض هولندا تحت سطح البحر ومهددة في أي وقت بالغرق) أو أن يعودوا إلى ألمانيا التي ترفضهم، وفي النهاية رضوا بالصراع مع البحر فراحوا يقيمون الحواجز والسدود ليصدوا مياه البحر التي تتربص بهم لتغرق أرضهم.
ولم يكتفوا بحماية أرضهم من فيضان البحر الذي يزداد يوما بعد يوم وإنما استطاعوا غزو البحر والانتصار عليه من خلال تجفيف مساحة كبيرة من البحر وتحويلها إلى محافظة كاملة في الشمال (محافظة إيلي) هي من أجمل الأماكن في هولندا، وقد استعانوا بطواحين الهواء المنتشرة عندهم لتوليد طاقة ينزحون بها مياه البحر ويلقونها خلف الحواجز والسدود الهائلة التي بنوها،
ثم قاموا بتجفيف المساحات التي اقتطعوها من البحر، ولما كانت تلك الأرض مالحة لا تصلح للزراعة لذلك استوردوا طميا من دول أوروبية أخرى ليصنعوا طبقة سمكها 7 سنتيمترات تمكنهم من زراعة الحشائش الخضراء والزهور، لذلك أصبح لديهم مساحات هائلة للرعي تكفي لأعداد كبيرة من البقر والحيوانات الأخرى وفي نفس الوقت مساحات هائلة لزراعة وتصدير الزهور. وصنعوا في هذه المحافظة المقتطعة من البحر قرية سياحية رائعة تسمى "فينيسيا هولندا" أو "فينيسيا الشمال" حيث تعتبر منتجعا سياحيا يحاكي فينيسيا إيطاليا ويستوعب أعدادا كبيرة من مواطني هولندا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا فضلا عن السائحين من كل أنحاء العالم، وهي مكان يفيض بالجمال والروعة حيث يحوي منازل خشبية رائعة محاطة بالخضرة والزهور يفصلها قنوات يتحرك فيها السكان والسائحين بقوارب جميلة.
والثروة الحيوانية هي إحدى معجزات هذا البلد، فالبقرة الهولندية تنتج في المتوسط 30-40 لترا من اللبن في اليوم الواحد فضلا عن كمية اللحم التي تحملها وتشكل مصدرا غذائيا كبيرا، وتقدر عدد الأبقار ب 12 مليون بقرة، وعدد الخنازير ضعف عدد السكان، وهذه الثروة الحيوانية الهائلة تجعل هولندا من أولى دول العالم في تصدير منتجات الألبان .
وقد استطاعوا التغلب على مشاكل الطاقة وخاصة توليد الكهرباء من خلال استخدام طواحين الهواء وهي منتشرة في كل مكان هناك، وهي تستخدم أيضا في الري والطحن وأنشطة أخرى كثيرة وهي غير مكلفة على الإطلاق وتشكل نوعا من الطاقة الطبيعية النظيفة والمتجددة، ولهذا لا تعرف هولندا تعبير انقطاع الكهرباء في أي لحظة.
وعلى الرغم من قلة المزارات السياحية في هولندا إلا أنهم يحسنون توظيفها فما من زائر يزور هولندا إلا ويأخذونه إلى مصانع الجبن ومصانع الأحذية الخشبية وقرية الصيادين وقرية فولندام السياحية وطواحين الهواء وفينيسيا هولندا، ولكن السائح يكون سعيدا بجمال الطبيعة ونظافة الشوارع والنظام العام هناك وطريقة التعامل الراقية والمهذبة والودودة. ولما كانت المياه تهاجم مدينة أمستردام من كافة النواحي لذلك حولوها إلى حوالي 880 نهرا أعطوا للمدينة سحرا خاصا وفي نفس الوقت استوعبوا المياه الزائدة في مسارات منتظمة يمكن التحكم فيها .
والتجربة الهولندية غاية في الثراء فقد استطاع المنبوذون أن يصنعوا وطنا جميلا ودولة مستقرة غنية، وبدلا من أن يجتروا أحزانهم ويندبوا حظهم ويتحدثوا عن الظلم الذي لحق بهم ويتحولوا إلى طاقة عنف وانتقام، اتجهوا إلى تشغيل العقول وتوظيف الملكات والقدرات وممارسة الإبداع الهندسي في السيطرة على مياه البحر التي تهاجمهم من كل مكان وفي كل لحظة، وأصبح لديهم أعظم خبراء في العالم في مجال بناء السدود وشق الأنهار والزراعة والثروة الحيوانية وصناعة الألبان والسياحة.
وهذا يأخذنا إلى أحوالنا في مصر حيث يستنزف الصراع السياسي والعقائدي قوانا ليل نهار في شكل عبثي لا ينتهي ونعيش مسجونين في شريط ضيق حول نهر النيل نعاني من كل مآسي الفقر والزحام والتلوث ونترك مساحات شاسعة من الأرض الصفراء محيطة بنا وخالية من البشر ولا نفكر في إعمال عقلنا لنغزوا هذه الصحراء ونصنع منها مساحات جديدة عامرة بالحياة وبالخضرة وبالصناعات وبالمدن الجديدة التي تتسع شوارعها وتتجمل مبانيها، ونعيش أزمة طاقة خانقة بينما لدينا مصادر للطاقة الشمسية وطاقة الرياح لم نفكر فيها حتى الآن. إننا نحتاج كثيرا للتجربة الهولندية ولكل تجارب الشعوب التي انتصرت على صراعاتها وعلى الصعوبات البيئية التي تهددها ولجأت إلى هندسة العقل وهندسة البيئة لتعيد تشكيل واقعها نحو الأنفع والأقوى والأجمل والأبقى. والحكمة دائما ضالة المؤمن والعاقل.
واقرأ أيضا:
الجماهير .. من السوقة والدهماء إلى عصر المجتمع المدني / نهضة ماليزيا في حوض سمك / ضحايا رامز جلال