مطرق رأسه للأرض دوما، معتمر طربوشا في زمن انقرضت فيه الطرابيش. قصير لو رأيته واقفا حسبته جالساً، عجوز كأنه موجود هكذا منذ أن بدأ الله الخلق. يتكئ على عصاة بكلتا يديه، لم نره من قبل إلا وهي معه، جالسا كان أو واقفا أو ماشيا؛ يطرق بها الأبواب، يهش بها الذباب، ويضربنا بها أحيانا إذا أثقلنا عليه بأفعالنا، وله فيها مآرب أخرى.
هكذا كان جدي عبد الحكيم بنظره الضعيف، لا يخلو يومنا أنا وأولاد عمي من مناغشته ومناكفته كأنه صبي بيننا. نتصنع دور الكلب ونهبش قدمه وهو جالس في مكانه يحدق للاشيء وربما نموء له كما تموء القطط فيضيق بنا زرعا ويضربنا بعصاه حرف اللام، ويصفنا دوما بأولاد الكلاب ناقصي التربية، ثم يتبعها بالتفل والبصق على شر ذرية؛ ثم ما يلبث إلا وقد تبدل حاله وتحسن مزاجه وبانت أسنانه الهتماء، ونادى علينا واحدا تلو الآخر، وهو يضع يده في جيبه الذي فوق صدره مخرجا حافظة نقود عتيقة تتدلى بسلسلة من الفضة لا نعرف لها آخر،
فنقف أمامه طابورا مثل يتامى بيت المال، وحين يجيء دوري آخر الأمر باعتباري أصغرهم يبدأون من جديد في مشاكسته ومناكفته فيصفهم هذه المرة بجاحدي النعمة، ويضيق بهم أكثر مما أضيق.
يرفع ربع جنيه للسماء، ثم يقربه من عينيه حتى يكاد أن يلصقه بهما قائلا:
كم هذا يا محمد؟
فأجيبه مثل جندي يلبي قائده: هذا ربع جنيه يا جدي.
فيقول: إياك أن يكون نصف جنيه
فأقول: لا والله يا جدي.ربع!
فيعطيني إياه وعلى وجهه علامات الرضا والاطمئنان، فأدسه في جيبي وأفر من أمامه متراقصا
مقلدا صوت الكلب، فيضحك حتى يشتعل صدره.
وكنت الوحيد بين أقراني الذي لا يضيق به جدي، فلا يسبني ولا ينعتني بأي لقب على غرار أبو أذنان أو ابن الأهبل، وكان يختصني دوما بشراء احتياجاته من التبغ وورق البفرة ماركة الشربتلي، وينقدني دوما ما يتبقى من أموال .
وظلت علاقتنا وطيدة على هذا الحال، تمر السنين ويكبر أولاد عمي وإخوتي فيتشردون في بلدان خليجية عدة تاركين أطفالهم وزوجاتهم في بيتنا الكبير، وأبقى أنا جالسا عند قدميه أموء وأعوي، فيضحك ويلكزني بعصاه في كتفي إن لزم الأمر، وقد تخلى عن سجائره اللف وأخذ يدخن معي سجائري الجاهزة،
ناعتا إياي بين الحين والآخر بالخائب الذي لا يعرف أين مصلحته، فلا أنا سافرت مثل إخوتي ولا أنا ماكث في أي وظيفة حكومية تحفظ ماء وجهي، مخبرا إياي كفاحه وماضيه الذي حفظته عن ظهر قلب من كثرة ما أخبرني تفاصيله، فيحكي بتأثر حينا، وينسني أحيانا، ثم ما يلبث إلا أن يحدق في اللاشيء.وظل جدي ماكث في مندرة بيتنا، وحيدا لا أنيس له سوى عصاه، وقد انصرف عنه أولاد إخوتي وأولاد أعمامهم، فلا هم يناغشونه ولا هم يناكفونه، أسرى لأجهزتهم الرقمية الحديثة، لكنه قد ابتدع حيلة جديدة ليجتزبهم إليه!
تقول أمي أنها كانت تراه بين الحين والآخر يلقي بالنقود حوله لعل الصغار يهتدون إليها، وهم يتنططون حوله، فيأتون له بها، فيعطيهم إياها رابتا على شعورهم، سائلا كل واحد منهم عن أبيه الذي في الغربة. آخر ما أتذكره عن جدي أنه نادى علي ذات يوم وكنت أمر بضائقة مالية فدس يده في جيب قميصه وأخرج لي ورقة فئة مئتي جنيه، ورفعها للسماء كعادته ثم ألصقها بعينيه، وقال لي بعشم زائد: خذ العشرة جنيهات هذه يا محمد، وأكمل عليها من معك واشتري لي عصيرا!
وعندما أخبرت أبي وأمي في حضور أعمامي وعماتي، عن عدم تمييزه للنقود وقيمتها أخذوا يضحكون حتى دمعت أعينهم وقالوا: خير يا رب! ومن بعدها بأيام قليلة امتلىء بيتنا بنسوة متشحات بالسواد، وغاصت مندرتنا بالرجال الذين أتوا من كل حدب وصوب ليقدموا واجب العزاء، وكنت لاهيا حينها في عالم آخر غير مصدق أنه قد فارقنا، وكان أبي في ذلك الوقت في ذروة صحته، لكني رأيت ملامحه وقد تبدلت فجأة وأخذت ملامح جدي عبد الحكيم، ورأيت على وجهه نظرة حزن لم أفهمها، لكني فهمتها حينما فقدت أبي أنا أيضا، وعلمت أن الرجل حينما يفقد أباه حتى ولو كان دوره هامشيا في الحياة، فإنه يشعر أن ذلك الجبل الذي كان يسند عليه ظهره قد أصبح فارغا!
واقرأ أيضاً:
أكل العيش / في كل شوك وردة! / أحزان هذا المساء / النداهة / تغيّرنا ! / على رأسي فانوس ! / أنا شخصٌ جميل لا يشبهني!