العقل الوطني هو القدرة الحضارية اللازمة لإطلاق طاقات المجتمع، وصبّها في نهر التفاعل الوطني الخلاق، الذي يساهم في تحقيق المصالح الوطنية والاجتماعية، وفق ضوابط وتشريعات تضمن الحقوق والواجبات وتمنح الأمل، وتراعي مصالح الأجيال وتتعهد بذور المستقبل وبراعمه فتتقدم واثقة نحو غدها الآمن السعيد.
والمجتمعات الحية تشارك بأفكارها ورؤاها وتصوراتها ومعتقداتها في بناء العقل الوطني الكبير، الذي يحافظ على حرية التعبير والحياة الكريمة، فوق أرض ذات مواصفات جغرافية وسياسية تسمى الوطن.
فالوطن في حقيقته عبارة عن صيرورة عقلية ونفسية وروحية متفاعلة وقائمة بكل ما فيها، ومتحركة على أنها المعبر الأصدق عن الحياة.
وأي بقعة أرضية لا يمكنها أن تكون وطنا إذا فقدت العقل الوطني، وجميع شعوب الأرض ذات الوطنية الحضارية المعاصرة، قد عبرت عن عقلها الوطني بدساتير تشعبت منها قوانين ومعايير، تساهم في توفير الظروف والأسباب والمسوغات اللازمة لتأكيد فعل العقل الوطني في الحياة.
وكان لصياغة دساتير الأوطان تفاعلات وإبداعات وابتكارات، تستوعب كل ما في الوطن وفقا لأبعاد الزمن الثلاثة.
والعقل الوطني هو الصانع للحاضر والمستقبل والمتفاعل مع المستجدات والتطورات، وفقا للمعايير القائمة والتي تجد قاسما مشتركا كبيرا بين أبناء المجتمع.
فهو لا يميل إلى تأكيد التناحر والتباعد ما بين أبناء المجتمع، وإنما يسعى إلى اكتشاف ما هو جامع وضامن، وقادر على إطلاق القدرات والتعبير الأمثل عنها، وتأكيدها وتجسيد أفكارها وموادها وما تحتويه من الطاقات.
وعندما يحضر العقل الوطني في التفاعلات على المستوى المحلي والخارجي والدولي، يكون أبناء الوطن قد تحركوا كشخص واحد، وتعاملوا مع الآخرين بقدراتهم الوطنية الحية الطامحة إلى الخير والتقدم والنماء.
ووفقا لهذا فالمجتمعات التي فقدت عقلها الوطني أو أصابه الجنون تتشظى، وتصنع مأساة احتراقها وفنائها السريع، لأنها لا تملك العقل الوطني الجامع، وتفتقد بوصلة الخطو الناجح إلى الأمام، وإنما تتخبط في ذات المكان، ولا تجد ما يرضيها ويهوّن عليها، فتعيش في الماضي وتنغمس فيه وتنغرز بأعماق التراب.
فتجد عندها قدرات الاجترار والتغني بالماضي ومَن عاشوا فيه وفعلوا ما فعلوا، ولا تدرك الحاضر أو تعرف المستقبل.
وما نراه في بعض المجتمعات التي أصيبت بمقتل، إنما بسبب هذا الفقدان المتواصل للعقل الوطني، مما أدى إلى نخراطها في سلوكيات سياسية واجتماعية لا تحقق المصالح الوطنية، وإنما تؤكد مصالح الآخرين الساعين إلى امتلاك مصادرها الطبيعية واستغلال حالة الجنون الوطني، وعدم تمكنها من بناء عقلها الوطني المعبر عن تطلعات أجيالها.
ولا يمكن في أي حال من الأحوال، أن تتمكن تلك المجتمعات من الحياة المعاصرة، إن لم تسعى بكل طاقاتها لتوفير الظروف اللازمة لبناء العقل الوطني الفعال، ليكون منظارها ومعيار سلوكها وبوصلة مسيرتها.
تلك مشكلة تعيشها المجتمعات المغضوب عليها بسبب أفكارها وأفعالها، واندحارها في ماضيها، وعدم قدرتها على تأسيس قواعد انطلاق حضاري مشرق، لأنها فقدت عقلها الوطني، ومَن يفقد عقله يسمى مجنونا، وتلك مجتمعات مجنونة حقا.
واقرأ أيضاً:
العالم السكران!! / الإبداع الديمقراطي/ الأسائيس؟! / الثيران تصرعنا!!