يبدو برنامجا فكاهيا لطيفا ومقلبا رمضانيا طريفا يبعث على الضحك ونحن نرى كمشاهدين الضحية –أحد الفنانين أو المشاهير -يوهمونه بأنه ذاهب لتصوير برنامج تليفزيوني في الغردقة، ثم يتعرض بعد ذلك لمفاجآت مرعبة تجعله قريبا جدا من الموت (يواجه أسدا، أو عصابة إرهابية تطلق النار من حوله، أو تغلق عليه مقبرة مليئة بالثعابين والخفافيش والأشباح، أو يجد نفسه غارقا في البحر وتحيط به أسماك القرش)، ويمر الضحية بلحظات عصيبة جدا يصل فيها إلى أقصى درجات الرعب حتى يكتشف في النهاية أن ما حدث كان مقلبا.
فهل ياترى تسير الأمور بسلام بعد هذا الحدث، أم أن ثمة آثار ضارة تلحق بالضحية بعضها قد يظهر مباشرة بعد الحدث وبعضها قد يتأخر ظهوره. على المستوى القريب والمباشر يعاني الضحية مما يسمى التفاعل الحاد للصدمة (Acute Stress Reaction ويظهر في صورة توتر شديد في الجهاز العصبي مع اضطراب في النوم وضعف الشهية للطعام ورعدة في الأطراف واستجابة مبالغ فيها للمثيرات العصبية مع سرعة استثارة وانفعالات زائدة. أما على المدى الأطول فيحدث ما يسمى "كرب ما بعد الصدمة" PostTraumatic Stress Disorder PTSD) وهو اضطراب نفسي معروف يظهر كرد فعل متأخر أو ممتد زمنيا عقب حدث يحمل طابع التهديد الخطير أو الكارثة الاستثنائية التي تهدد حياة أو سلامة الشخص أو تهدد آخرين أمام عينيه. وتبدأ الحالة بعد فترة كمون تتراوح بين بضعة أسابيع إلى عدة شهور لتظهر أعراض في صورة نوبات اجترار وإعادة تذكر ومعايشة الحدث الصدمي أثناء اليقظة أو في الأحلام مع حالة من الخوف والهلع أو الإحساس بالخدر والتبلد الانفعالي والانفصال عن الآخرين وتجنب كل ما يتصل بالحادث من رموز أو علامات أو ذكريات. وتشيع حالات القلق والاكتئاب كمراضة مصاحبة لكرب مابعد الصدمة، كما تزيد نسبة التفكير في الانتحار، وقد يلجأ الشخص لاستخدام بعض العقاقير أو الكحوليات لتقليل حدة الاضطراب الذي يشعر به. وقد تتحسن الحالة بعد عدة شهور، وأحيانا تأخذ مسارا مزمنا قد يمتد لعدة سنوات خاصة إذا لم تتخذ إجراءات علاجية مناسبة.
وقد تحدث تغيرات في الشخصية نتيجة انهيار ما يسمى بالافتراضات الأساسية في الحياة لدى الضحية حيث أننا في الأحوال العادية نشعر بأن الأمان هو الأصل وأن السلامة هي القاعدة وأن حياتنا وكرامتنا وسلامتنا مصونة من الغير، ولكن حين نواجه بحدث استثنائي كهجوم إرهابي أو غرق أو زلزال أو أي حادث مروع فإن افتراضاتنا الأساسية تهتز ونشعر بأن الخطر قائم وأن حياتنا مهددة وأن سلامتنا غير مؤكدة، وهذا يعطي انطباعا سلبيا عن الحياة يستقر في أعماق النفس وينتج عنه مشاعر وأفكار سلبية. ويصاحب الحالة اضطراب في الجهاز العصبي المستقل في صورة سرعة في ضربات القلب وتعرق ورعشة بالأطراف وشعور بالاختناق وتقلصات بالبطن خاصة عند التعرض لأي شيء يعيد تذكر الحادث المؤلم أو الصادم .
والذين قاموا بعمل البرنامج لا ندري أهم يعرفون ذلك أم لا، وربما يقولون أننا نعلن للشخص المقصود أن هذا مقلب وأننا نمزح معه، ولكن للأسف الشديد فِإن معرفة الضحية لاحقا بأن هذا كان مقلبا لا يغير في الأمر شيء، إذ أن المخ والجهاز العصبي قد استقبل الحدث وتفاعل معه على أنه حقيقة وحدثت الذاكرة الصدمية وتأكدت ولا يفييد كثيرا بعد ذلك معرفة أن هذا كان مزاحا.
لا ينكر أحد خفة ظل وموهبة مقدم البرنامج رامز جلال وتعليقاته التلقائية والطريفة والمحبوبة، ولا ينكر أحد حالة الابتكار المتجددة لدى فريق العمل وحالة الإبهار في الديكور والتصوير والإخراج و"حبكة" الموقف، ولا ينكر أحد النجاح الجماهيري الهائل للبرنامج، ولا ينكر أحدا أن الضيف (الضحية) يتقاضى حقوقه المادية المجزية، ولكن أمام كل هذا يترك البرنامج ضررا نفسيا في ضيوفه قد تختلف شدته من شخص لآخر ولكنه ضرر مؤكد.
وعاما بعد عام (ومع إغراء النجاح الجماهيري وتدفق الإعلانات على البرنامج) تزداد المواقف رعبا، وتزداد الخطورة في الأشخاص الأكبر سنا والذين يمكن أن يصابوا باضطرابات خطيرة في القلب أو في الجهاز العصبي قد تودي بحياة أحدهم أو تترك آثارا مرضية خطيرة. ويبدو أن البرنامج سيستمر تحت إغراءات النجاح، ولن يتوقف أو يتغير إلا بعد موت أحد الضحايا، ومن هنا وجب التنبيه والتحذير.
وحتى من الناحية الفنية فإن إحداث كل هذا القدر من الرعب حتى يضحك المشاهد لهو من قبيل ضعف الجوهر الفني، إذ الفن الحقيقي يتميز باللطف والرقة والجمال وليس بالعنف والتهديد الذي يشكل خطرا على حياة الناس. وليس من المقبول أو المنطقي أو الأخلاقي أو الإنساني أن نعرض حياة أو سلامة إنسان للخطر مقابل انتزاع ضحكات الجمهور أو الحصول على أموال طائلة من الإعلانات التجارية.
ويضاف إلى ذلك ما قد يحدث من تشجيع للناس على عمل مقالب لأصدقائهم على هذه المستويات الخطرة كنوع من التقليد والمحاكاة، ولا يمنع من ذلك التحذير المكتوب في بداية البرنامج.
واقرأ أيضا:
الجماهير .. من السوقة والدهماء إلى عصر المجتمع المدني / هندسة العقل وعمران الأرض / لماذا تدهورت أخلاقنا؟يبدو برنامجا فكاهيا لطيفا ومقلبا رمضانيا طريفا يبعث على الضحك ونحن نرى كمشاهدين الضحية –أحد الفنانين أو المشاهير -يوهمونه بأنه ذاهب لتصوير برنامج تليفزيوني في الغردقة، ثم يتعرض بعد ذلك لمفاجآت مرعبة تجعله قريبا جدا من الموت (يواجه أسدا، أو عصابة إرهابية تطلق النار من حوله، أو تغلق عليه مقبرة مليئة بالثعابين والخفافيش والأشباح، أو يجد نفسه غارقا في البحر وتحيط به أسماك القرش)، ويمر الضحية بلحظات عصيبة جدا يصل فيها إلى أقصى درجات الرعب حتى يكتشف في النهاية أن ما حدث كان مقلبا.
فهل ياترى تسير الأمور بسلام بعد هذا الحدث، أم أن ثمة آثار ضارة تلحق بالضحية بعضها قد يظهر مباشرة بعد الحدث وبعضها قد يتأخر ظهوره. على المستوى القريب والمباشر يعاني الضحية مما يسمى التفاعل الحاد للصدمة (Acute Stress Reaction ويظهر في صورة توتر شديد في الجهاز العصبي مع اضطراب في النوم وضعف الشهية للطعام ورعدة في الأطراف واستجابة مبالغ فيها للمثيرات العصبية مع سرعة استثارة وانفعالات زائدة. أما على المدى الأطول فيحدث ما يسمى "كرب ما بعد الصدمة" PostTraumatic Stress Disorder PTSD) وهو اضطراب نفسي معروف يظهر كرد فعل متأخر أو ممتد زمنيا عقب حدث يحمل طابع التهديد الخطير أو الكارثة الاستثنائية التي تهدد حياة أو سلامة الشخص أو تهدد آخرين أمام عينيه. وتبدأ الحالة بعد فترة كمون تتراوح بين بضعة أسابيع إلى عدة شهور لتظهر أعراض في صورة نوبات اجترار وإعادة تذكر ومعايشة الحدث الصدمي أثناء اليقظة أو في الأحلام مع حالة من الخوف والهلع أو الإحساس بالخدر والتبلد الانفعالي والانفصال عن الآخرين وتجنب كل ما يتصل بالحادث من رموز أو علامات أو ذكريات. وتشيع حالات القلق والاكتئاب كمراضة مصاحبة لكرب مابعد الصدمة، كما تزيد نسبة التفكير في الانتحار، وقد يلجأ الشخص لاستخدام بعض العقاقير أو الكحوليات لتقليل حدة الاضطراب الذي يشعر به. وقد تتحسن الحالة بعد عدة شهور، وأحيانا تأخذ مسارا مزمنا قد يمتد لعدة سنوات خاصة إذا لم تتخذ إجراءات علاجية مناسبة.
وقد تحدث تغيرات في الشخصية نتيجة انهيار ما يسمى بالافتراضات الأساسية في الحياة لدى الضحية حيث أننا في الأحوال العادية نشعر بأن الأمان هو الأصل وأن السلامة هي القاعدة وأن حياتنا وكرامتنا وسلامتنا مصونة من الغير، ولكن حين نواجه بحدث استثنائي كهجوم إرهابي أو غرق أو زلزال أو أي حادث مروع فإن افتراضاتنا الأساسية تهتز ونشعر بأن الخطر قائم وأن حياتنا مهددة وأن سلامتنا غير مؤكدة، وهذا يعطي انطباعا سلبيا عن الحياة يستقر في أعماق النفس وينتج عنه مشاعر وأفكار سلبية. ويصاحب الحالة اضطراب في الجهاز العصبي المستقل في صورة سرعة في ضربات القلب وتعرق ورعشة بالأطراف وشعور بالاختناق وتقلصات بالبطن خاصة عند التعرض لأي شيء يعيد تذكر الحادث المؤلم أو الصادم .
والذين قاموا بعمل البرنامج لا ندري أهم يعرفون ذلك أم لا، وربما يقولون أننا نعلن للشخص المقصود أن هذا مقلب وأننا نمزح معه، ولكن للأسف الشديد فِإن معرفة الضحية لاحقا بأن هذا كان مقلبا لا يغير في الأمر شيء، إذ أن المخ والجهاز العصبي قد استقبل الحدث وتفاعل معه على أنه حقيقة وحدثت الذاكرة الصدمية وتأكدت ولا يفييد كثيرا بعد ذلك معرفة أن هذا كان مزاحا.
لا ينكر أحد خفة ظل وموهبة مقدم البرنامج رامز جلال وتعليقاته التلقائية والطريفة والمحبوبة، ولا ينكر أحد حالة الابتكار المتجددة لدى فريق العمل وحالة الإبهار في الديكور والتصوير والإخراج و"حبكة" الموقف، ولا ينكر أحد النجاح الجماهيري الهائل للبرنامج، ولا ينكر أحدا أن الضيف (الضحية) يتقاضى حقوقه المادية المجزية، ولكن أمام كل هذا يترك البرنامج ضررا نفسيا في ضيوفه قد تختلف شدته من شخص لآخر ولكنه ضرر مؤكد.
وعاما بعد عام (ومع إغراء النجاح الجماهيري وتدفق الإعلانات على البرنامج) تزداد المواقف رعبا، وتزداد الخطورة في الأشخاص الأكبر سنا والذين يمكن أن يصابوا باضطرابات خطيرة في القلب أو في الجهاز العصبي قد تودي بحياة أحدهم أو تترك آثارا مرضية خطيرة. ويبدو أن البرنامج سيستمر تحت إغراءات النجاح، ولن يتوقف أو يتغير إلا بعد موت أحد الضحايا، ومن هنا وجب التنبيه والتحذير.
وحتى من الناحية الفنية فإن إحداث كل هذا القدر من الرعب حتى يضحك المشاهد لهو من قبيل ضعف الجوهر الفني، إذ الفن الحقيقي يتميز باللطف والرقة والجمال وليس بالعنف والتهديد الذي يشكل خطرا على حياة الناس. وليس من المقبول أو المنطقي أو الأخلاقي أو الإنساني أن نعرض حياة أو سلامة إنسان للخطر مقابل انتزاع ضحكات الجمهور أو الحصول على أموال طائلة من الإعلانات التجارية.
ويضاف إلى ذلك ما قد يحدث من تشجيع للناس على عمل مقالب لأصدقائهم على هذه المستويات الخطرة كنوع من التقليد والمحاكاة، ولا يمنع من ذلك التحذير المكتوب في بداية البرنامج.
واقرأ أيضا:
الجماهير .. من السوقة والدهماء إلى عصر المجتمع المدني / هندسة العقل وعمران الأرض / لماذا تدهورت أخلاقنا؟