هناك العديد من التطورات النوعية الجديدة (عسكريا وسياسيا) في حرب غزة –إسرائيل 2014 م لفتت نظر المراقبين والمحللين السياسيين, وفي نفس الوقت ثمة تطورات نفسية حدثت تستحق الرصد والاهتمام نذكر منها :
1 – شيء من توازن الرعب :
إذ لم تعد الساحة مفتوحة لإسرائيل وحدها تفعل ماتريد بل أصبح الفلسطينيون في غزة قادرون على الرد والإيلام بوسائلهم الخاصة, وهذا مااتضح من شكوى وسائل الإعلام الإسرائيلية من حالة التعتيم الإعلامي "عبر الرقابة العسكرية" لجيش الاحتلال, ففي الأيام الأخيرة انتشرت (أو سربت) معلومات تفيد مقتل 14 جنديا إسرائيليا وجرح عشرات آخرين في حي الشجاعية والتفاح في غزة وأسر الجندي شاؤل آرون, قبل أن يعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل 13 جنديا من قواته. وتكرر الأمر نفسه قبل ذلك بعد مقتل أربعة جنود إسرائيليين حيث تم الكشف بالتدريج عن قتلهم في عمليتين مختلفتين من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية حفاظا على الناحية المعنوية للإسرئيليين والتي بدا أنها تأثرت كثيرا بالخسائر التي لم تتعودها طوال فترة الصراع حين كانت لها الغلبة المطلقة وكان الفلسطينيون مجرد ضحايا يستغيثون بالعالم العربي أو المجتمع الدولي لإنقاذهم .
ويقول أحد الصحفيين الإسرائيليين (عوزي بنزيمان صاحب موقع "العين السابعة") تعليقا على ذلك التعتيم الإعلامي: “أفهم أهمية الرقابة في منع تحديد مواضع سقوط الصواريخ وملاحقة من ينتهك تعليماتها، لكن منع نشر معلومات في عصر الإنترنت مثله مثل سد مجرى نهر الأردن بكفي اليدين، ولن يفيدها كثيرا محاولة تعويض الإسرائيليين بالقول إننا قتلنا العشرات وهدمنا الأنفاق، أو أن القتال صعب وأننا مضطرون لدفع الثمن لأن البديل أسوأ. ويوضح بنزيمان أن وسائل الإعلام الإسرائيلية كانت في المرحلة الأولى من العدوان تزود الجمهور بمعطيات عميقة وواسعة، لكن معلوماتها اليوم باتت شحيحة وتكاد تنحصر بما يحرره الناطق بلسان الجيش والرقابة العسكرية"، مشيرا إلى أن ذلك “يعكس تطور الأوضاع الميدانية لصالح العدو".
وقد أصبح الإسرائيليون أنفسهم يتابعون الإعلام الفلسطيني ليعرفوا منه بقية الصورة وهي أن الاجتياح البري لاقى صعوبات وتحمل خسائر كبيرة, وأن المقاومة الفلسطينية كانت تقاتل في بعض الأوقات على أرض تحتلها إسرائيل خارج نطاق غزة, وهذه كلها تطورات نوعية في الصراع .
وقد ظهرت الصواريخ الفلسطينية أكثر تطورا وأبعد مدى (160 كيلو مترا) بما يهدد كبرى المدن الإسرائيلية, وظهرت أيضا طائرات بدون طيار تضرب خلف خطوط العدو وظهرت شبكة من الأنفاق تتيح التسلل للعمق الإسرائيلي, وربما هناك الكثير من وسائل الردع تمتلكها القيادة الفلسطينية وتحتفظ بها لوقت الحاجة لتفاجئ بها إسرائيل .
2 – الخروج من الوصاية والرعاية المصرية :
أدت الأحداث السياسية الداخلية في مصر وتعاطي الإعلام لها إلى تكوين حالة من العدائية تجاه حركة حماس على اعتبار أنها امتداد للإخوان المسلمين الذين يشتبكون سياسيا مع السلطة منذ 30 يونيو 2013م , وقد تم تعميم هذا الموقف العدائي على غزة بل على مجمل القضية الفلسطينية, مع رغبة في الانكفاء على الذات والاكتفاء بمشاكل الداخل المصري. وأدى هذا إلى تراجع الدور المصري التقليدي وحصره في تقديم بعض المعونات الطبية والغذائية وتقديم مبادرة مازالت حائرة بين الأطراف.
3 – الخروج من الرعاية العربية :
ولم يختلف الموقف العربي عموما عن الموقف المصري, إذ لم يعد ثمة حماس لدى الدول العربية للدخول بثقل في هذا الصراع المزمن خاصة وأن دول الخليج (القادرة على المساعدة المادية على الأقل) لها تصوراتها وحساباتها ومحاذيرها, أما بقية الدول فهي غارقة في صراعاتها ومشكلاتها الداخلية.
4 – اتساع الأفق الإقليمي والدولي :
ومع تراجع الدور المصري والعربي, ظهرت قوى إقليمية أخرى أكثر فاعلية وتأثيرا في الأحداث مثل إيران وتركيا وبعض الدول الإسلامية الأخرى كباكستان وماليزيا وإندونيسيا مما يعطي بعدا إسلاميا للقضية يتجاوز البعد العربي بإحباطاته وقيوده وعجزه على مدى سنوات طوال . ويبدو أن هذا يعطي فرصة لتنويع الدعم واتساعه أمام الفلسطينيين الذين أصبحوا يشعرون أن فكرة الصراع العربي الإسرائيلي لم تعد نشطة في الذهنية العربية على الأقل في الوقت الحاضر, وأن عليهم أن يعتمدوا على جهودهم الذاتية في المقاومة مع دعم أكثر تأثيرا من المحيط الإسلامي .
5 – استقلال الإرادة الفلسطينية :
وبدا هذا في قدرة (وجرأة) الفلسطينيين على رفض المبادرة المصرية, والتمسك بحقهم في المقاومة, والتفكير في الخيارات المطروحة دون هلع أو تسليم, والقناعة بالمثل القديم "ماحكّ جلدك مثل ظفرك".
6 – مكاسب الصمود :
وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها الفلسطينيون في الأرواح والممتلكات إلا أنهم تعلموا من خبراتهم السابقة (خاصة في حرب 2009م) أن صمودهم يعطيهم مكاسب كبيرة فقد بدأت إسرائيل تقتنع أن القوة الفلسطينية (رغم محدوديتها نسبيا) أصبحت رقما مهما في المعادلة وأنها قادرة على تهديد أمن إسرائيل وقادرة على أن تجعل الإسرائيليين يهرعون إلى الخنادق خوفا من قصف الصواريخ, وأصبح العالم الخارجي يقتنع أكثر بأحقية الفلسطينيين بل وجدارتهم في أن يكون لهم دولة, وأنهم لم يعودوا تحت رحمة إسرائيل ولا تحت الوصاية أو الرعاية العربية المرتعشة والمحكومة .
اقرأ أيضاً:
بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين/ المقاومة الفلسطينيّة والحرب النفسيّة/ دروس من العدوان على غزّة/ الصواريخ الفلسطينية... "قوة الضعف وضعف القوة"/ صمتٌ متخاذلٌ وتبريرٌ متآمرٌ/ الموقف التركي من العدوان على غزة