هل أن الطائفية من طبائع السلوك البشري ؟
أم أنها سلوك نتعلمه منذ صغرنا، وننشأ عليه ولا نعرف سلوكا سواه، برغم كل ما يجلبه علينا من الأوجاع والملمات الاجتماعية الدامية؟
هل الطائفية سلوك يمكن أن نغيّره؟ علينا أن نسأل أنفسنا ونستحضر مبادئ ديننا وأخلاقنا وتقاليدنا ونجتهد بالجواب.
ترى كيف يتحول أبناء الدين الواحد إلى طوائف متناحرة، وأصحاب الألوان المختلفة إلى أعداء؟
إن الموضوع قد يكون معقدا والجواب فيه صعوبة، لكن البشر يبحث عن الجواب لكي يزيل غشاوات الجهل والانفعال والاضطراب عن سلوكه.
يبدو لمن يتأمل التاريخ ومعايير السلوك البشري عبر مراحله الزمنية الطويلة، أن النسبة العظمى من السلوك إنما هي مكتسبة، أي أن البشر يتعلمها من محيطه الذي يترعرع فيه.
فلا توجد جينات طائفية، بل توجد جينات بشرية تنزع في تأثيراتها لتحقيق الاختلافات اللازمة للحياة وتواصل النوع البشري.
وبعض البشر ينزع إلى هذه السلوكيات اعتمادا على اضطرابات في شخصيته، خصوصا أولئك المصابون باضطراب الشخصية اللااجتماعية، والذين مات في أعماقهم الضمير وما عاد لديهم رادع لما يفعلون، ولا توجد قوة في داخلهم تحاسبهم عن أعمالهم، فهم بلا ضمير يؤنبهم ويسائلهم، فيعيثوا فسادا، وإذا امتلكوا قوة خربوا ودمروا وأهانوا العباد لتحقيق حاجاتهم النفسية الخفية، ففي الكثير من السلوكيات الطائفية نوازع غير سَوية أو باثولوجية، وشرَه مطلق للجريمة وسفك الدماء والشعور بالقوة والسيطرة والجبروت.
وبصورة عامة فهذه السلوكيات التي يفرزها المجتمع ويصيب بها أعضاءه، يكتسبها من الآخرين المصابين باضطرابات سلوكية خطيرة، وتحولوا إلى رموز لفئة أو قوة ما.
فالبشر يتعلم بالتقليد وبالملاحظة، وعندما يقوم هؤلاء بتلك السلوكيات ويحصدون من ورائها ما يعززها من المحفزات، فإن الآخرين يعيدونها ويكررون سلسلة مآسيها ودماراتها، وتتحقق في داخلهم قوة رافضة للآخر، أي أنهم يميلون إلى الانغلاق، والتوهم بأن ما يقومون به عين الحقيقة ولا شائبة عليه، ولا يحق لأحد أن يحاجج فيه، لأنه قد تحول إلى وجود مقدس في أعماقهم، مما يتسبب في المزيد من الويلات والجراحات وسفك الدماء، ويصابون بداء مثالية السلوك الخبيث، ويتعلمون ترسيخ هذه السلوكيات من خلال تكرار مشاهدها، وتنامي المردودات المشجعة عليها، وتحولها إلى قيمة اجتماعية ذات مردود معنوي كبير على الفرد والعائلة. فيحسبون جميع الأواني إناءا واحدا، ولا يفكرون بما يحوي الإناء، أي يميلون إلى التعميم القاسي المشين، ومن هنا تنشأ الكراهية والحقد والبغضاء وكل معطياتها السلبية، التي تعمي البصيرة وتشل الأبصار، وتحول البشر إلى مخلوق عدواني متوحش، ومفترس كاسر لأخيه.
فالطائفية بهذا المعنى اضطراب سلوكي، يجعل البشر يعامل بعضه البعض بكراهية وجهل، اعتمادا على أفكار وتطلعات عدوانية هائجة، تفور في دنياه وتعززها خرافات وتصورات وادعاءات معدومة البراهين، وإنما هي أضاليل اختمرت في جهاز البشر المتحكم بغريزة الخوف والبقاء، الذي يدفع إلى التوحش وردود الأفعال الغير متناسبة مع الموقف أو الحالة القائمة، أي أنها قد تدفع إلى سلوك دموي مروع، للتعبير عن الخوف من الخوف المقيت، وهي سلوك مضطرب مكتسب نتعلمه من خلال نشاطاتنا المتنوعة، ويتم استخدامه لإيقاع المزيد من الويلات بين الناس، وتحقيق أغراض سياسية مغرضة؛ فنتعلم كيف نكره الآخر ونخافه، وربما بعناية فائقة وقصد مبرمج دون شعور منا، سوى أن ما نتعلمه يعزز الشعور بالانتماء إلى تلك الفئة أو الجماعة، وكلما أسرفنا في التخندق فيها، ازداد خوفنا وكراهيتنا للآخر، وصار رد فعلنا تجاهه فعل تدمير وقتل، للشعور بالخوف الشديد منه والكراهية الحمقاء له.
إن البشر الذي لا يمتلك هذه الأحاسيس المعوّقة يعيش في مجتمعات متفاعلة، ويشعر بالقوة والأمن والأمان، ويحقق إبداعا خلاقا ويؤسس لحضارة متطورة يسودها العدل والقانون، أما المصابون بهذا الداء فيمضون حياتهم في رعب وتدهور، وإنهيارات متلاحقة وضعف متواصل يؤدي بهم إلى حيث الخسران، وقد تلعب أدورا في هذه السلوكيات، القوى الساعية لامتلاكها، والخوف الشديد من ضياعها أو فقدها، ويتم إثارتها باستثمار مَواطن الاختلاف، وكأن البشر خلقوا كفرد واحد بلسان وعقل ولون واحد لا غير.
إن وعي مفردات هذا السلوك، وإحباط مبررات تعلمه، واستهجان ما يشير إليه سواء في البيت أو المدرسة أو المجتمع، والصحف ووسائل الإعلام، وإسقاط مفرداته من معجم التخاطب بين الناس، يساهم بعلاجه والوقاية منه، لأن المجتمع لا يجني منه إلا الضرر، فعلينا أن نرفض منطقه، وندينه بشدة، ونتجنب مفرداته، ونحذره أشد الحذر، وعلى الرموز المتنوعة في أي مجتمع أن تنأى عن هذا المنطق التفريقي التدميري للمجتمع الذي هي فيه، وتشجع على التواصل والتفاعل والتفاهم، وتبادل الرؤى ووجهات النظر، لكي تصنع سبيكة اجتماعية قوية تسعد أبناء المجتمع كافة، إن الذات عليها أن تستيقظ، والعقل أن ينفتح، ولنناد كلنا أبناء وطن واحد، نساهم في بنائه وتحقيق السعادة لنا وللأجيال من بعدنا.
فأبناء الدين الواحد أخوة، كالجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد بالسهر والحمى، ولنعتصم بحبل الله جميعا ولا نتفرق ونكون إخوانا.
"أيها الناس إنما المؤمنون أخوة..."
"أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم..."
"أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم..."
"ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم"
إن اختلاف البشر آية من آيات الخلق وإعجاز الصيرورة والوجود، فجيناتنا متشابه وأمراضنا متشابهة، وألواننا مختلفة وأفكارنا ومداركنا ولغاتنا كذلك، لكننا نعمل بقلب واحد نحو هدف واحد، ولنا قبلة واحدة وإله واحد ونبي واحد؛ فلماذا ننسى كل هذا وذاك ونتصاغر في خنادق الطائفية؟
نعم إنها سلوكيات مكتسبة نتعلمها، ولنرفض كل سلوك يُشجعها ويُعلمها، وعلى القيادات السياسية والدينية والاجتماعية، أن تمنع التعامل بمفرداتها وتمقتها وبقوة، لأنها تمثل الخسارة والدمار والثبور، والضياع للجميع بلا استثناء، وفي العديد من المجتمعات المتقدمة يحاسب القانون على أي تصرف، يتصل بالتمييز ما بين الناس أيا كان نوعه، فلماذا لا تكون عندنا قوانين تشبهها؟!!
*الطائفة من الشيء: جزء أو قطعة منه، والطائفية تعني تقطيع الشيء الواحد إلى أشياء متماحقة!
واقرأ أيضاً:
الإرادة المستلبة والمفروضة!! أمة اقرأ متى تقرأ؟! / تساؤلات في زمن محموم!! / الدماغ العالمي!!