كلهم يتمتم بذكر، أو يلتمس بركة، أو يثير شبهة.. حين يرى الورقة معلقة، وأنا تباغتني رعدة.. إذ أشعر بحضرته الطاغية، وكأنني واقف بين يديه ينظر إلي .. كتلميذ مقصر.. مغرورقة عيوني بدموع حب عميق .. وشوق طليق..!!
كنت في مطلع شبابي أتأمل فيما يقدم لنا من معاني وروايات تحكي سيرته، وكثيرا ما وجدت جفافا في تلك الصفحات التي تحكي عن حروبه، ولا تكاد تروي ظمأ وفضول المستكشفين عن إنسان هو الأعظم في يقين وروح محبيه، ومتابعيه، فهل كتب أحد وأجاد عن جوانب أخرى في شخصيته الثرية المبهرة، وعن عبقرية الوعي والبساطة.. فيها؟!!
روحه الخالدة حاضرة يستشعرها من كان له قلب شهيد كما كان صلى الله عليه وسلم شاهدا، وشهيدا، وأعجب لمن يؤمنون به، ولم يروه، وبنفس الوقت لا يحسون روحه قوية وقريبة، وأعجب ممن يؤمنون به ولا يدمنون ذكره باللسان، والعقل، ولا يتصلون بما قال وفعل.. تمثلا وحبا وعميق اقتداء!!
الرسول الأعظم هو طريق وطريقة للحياة، وتصورها، وفلسفة وقيم لعيشها، وأعجب لمن يؤمنون به، وبنفس الوقت حياتهم بكل هذا البؤس، والتعاسة، ويبدو أن الرسول في حياتنا قد صار يشبه أيقونة جامدة نفيسة، وعتيقة، وليس هذا المعنى الحي المتدفق المزدهر بطاقة الحياة، والنفاذ، والتجديد!
في حوارات مطولة مع سيدة دانماركية مسلمة تناولنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع نساء بيته، وكل النساء من حوله، ولفتت السيدة نظري أن أغلب المسلمين لم يفهموا سلوك الرسول في هذه الناحية، بينما هي ترى أن أفضل تفهيم لهم أن يدركوا معنى الجنتلمان بالمصطلح الحديث والمعاصر، وفيه من الرفق والحساسية والرعاية والاحترام والحب ما فيه، وتذكرت كلامها هذا، حين وقعت على أثر في المرويات المعتمدة عند الشيعة ينسب إلى الرسول قوله :
"كلما ازداد المرء إيمانا.. يزداد حبا للنساء"
ومعاني هذا الأثر مبثوثة في تعاليمه وفي تعاملاته من السيدة خديجة حبه الأول والكبير، والسيدة فاطمة الزهراء، وأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، ومرضعاته، ومربياته، والصحابيات من حوله، دقق فيما تناثر واجمعه لتعرف معنى الجنتلمان!
وهو في الحرب فارس نبيل فمن أين جاء بعض من يزعمون الانتساب إلى دينه وسنته بكل هذه الغلظة والسماجة، ومن أين جاءوا بهذا التوحش البربري الذي عرفته الإنسانية في عصور ظلامها، وبعيد كل البعد عن تمدن الرسول الأعظم، ورقية، وهو الذي أصاب كسرى بحسرة توقظه ليلا ليقول: أكل كبدي عمر، أحرق كبدي.. علم هؤلاء حتى علموا!!
وكسرى ظن أن الرقي والتمدن الذي أصاب العرب الأجلاف المتأخرين عن التحضر في عصرهم قد كان على يد عمر بن الخطاب!!
وهو القائد الروحي الذي يتحنث في خلوته بالليالي ذات العدد هناك في صحراء موحشة من قبل بعثته، ثم في أكاديمية قيام الليل الذي يسميه شرف المؤمن، وروحانية الرسول تتجلى في بساطة عيشه، والبعد التام عن متاع الدنيا وزخرفها، دون تحريم للطيبات، لكنه يعيش حالة زهد اختياري فيها، بينما المسلمون تسحقهم الماديات، ويدينون دين الاستهلاك الشره مثلهم مثل غيرهم!
بالتدريج يتحول الرسول في حياتنا إلى رمز نحترمه جدا، ونحبه جدا، ولكن يبقى عيشنا بعيدا عن مقاصد وملامح وجوهر حياته صلى الله عليه وسلم
وكأن ربه سبحانه هو رب المعالي، وتغيير العالم، والسمو بالنفس حتى ترتقي تواصلا مع منبع النور السرمدي، في منافسة مع الملائكة الأطهار، بينما ربنا هو رب الأشياء الصغيرة، والطموحات الكسيحة، وسفاسف الحياة نقتات ونتنافس عليها!!
وأنا واقف في لجتي يضيق صدري ولا ينطلق لساني، أرى أمتي تعبد الأيقونات، وتقدس الرموز، بينما هي غارقة في البؤس، يقتلها العطش للنور، والخير كله فوق ظهورها، لكنها تعرض عنه، أو تمسخر وتبتذل تعاملها معه، مستمسكة بجهل طويل عميق!
هل يمكن أن نستعيد الرسول بحق من وسط أوهامنا ودروشة تعاملنا معه؟؟
هل نؤمن أن روحه خالدة في هذا الكون.. إلى ما شاء الله، وأننا يمكن أن نستشعرها يقظة كما نراها في سرد رؤية أثناء النوم؟؟
هل نعيد بناء صورته الذهنية في عقولنا وأرواحنا، ووصل علاقتنا به لتكون حية نابضة ومتجددة؟؟
حتى ذلك الوقت سأظل أتمتم: لكم رسولكم، ولي رسول!
وأنشد مع الشاعر :
ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
واقرأ أيضًا
حضرات السادة المثقفين / عن الموسيقى
التعليق: سلمت يداكم على هذه المدونة التي تخرجنا من جمود الغفلة وقسوتها، وتربطنا برقة الروحانيات السامية وسموها... واسمحوا لي أن أشارككم فأضع لمسات من رقة المباني أضيفها إلى رقة هذه المعاني...
*بحرضرته طاغية، أرق من (بحضرته الطاغية) التي تذهب بفكرنا إلى طغاة هذه الأيام وتجعل المعنى ملتبسًا في البداية.
*واقتداءً بالخليل إبراهيم عليه السلام في رقة قوله وذوقه النبوي: ((وإذا مرضت فهو يشفين)) ونسبته المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، مع أن الكل من الله، كي لا يقرن الشر باسم الله تعالى هذه لفتات:
-(ويبدو أن الرسول في حياتنا قد صار يشبه أيقونة جامدة نفيسة، وعتيقة): إنما هي علاقتنا به، وليس هو الذي يشبه، إنه عليه الصلاة والسلام لا تؤدي حقه كل كلمات المدح والإطراء.
-(بينما ربنا هو رب الأشياء الصغيرة): إنما نحن على تقصيرنا نعبد الله على كل حال، والله يتصف بالكمالات كلها، فربنا ليس رب الأشياء الصغيرة، ولكن بعضنا اتخذ الأشياء الصغيرة وهواه ربه وإلهه.
-(لكم رسولكم، ولي رسول): على رسلك!!! رسولنا واحد ولكن علاقتنا به تختلف...
جمعنا الله تعالى جميعًا على حوضه، ورزقنا صحبته في جنة النعيم، آمين