لم أكد أعرفه فقد انطفأ بريق عينيه وكان يجلس مطرقا لا يتحدث إلا قليلا وبكلمات هامشية غالبا لا تحمل معنى أو رسالة ولكنها توحي بالعجز واليأس والغضب والعزلة والتمرد الصامت والسخرية الباهتة, على الرغم من أنني كنت أراه أيام ثورة يناير 2011م وسط الثوار شعلة من الأمل والحيوية والنشاط وطاقة من الفكر الجديد الوثّاب وأحيانا الإندفاع والتهور. سألته بشكل مفاجئ : أين الشباب ؟ .. فرد بابتسامة ساخرة : "انشقت الأرض وبلعتهم" !!! ... قلت على الفور : هذا بالضبط ما نشعر به .. فبعد أن كانوا يملأون الدنيا صوتا وحركة وحيوية إبان الموجة الأولى لثورات الربيع العربي, واستبشرنا خيرا ببداية حقبة شبابية مستنيرة ومتطورة ومتناغمة مع العصر في المجتمعات العربية ... إذ بالدائرة تدور ويختفي الشباب (أو يتم حجبهم) ليعود العواجيز مرة أخرى يحكمون ويتحكمون. هز رأسه في أسى نبيل : جيلنا فعل ما يستطيع وحرك ثورات كبيرة وأطاح بنظم مستبدة مزمنة, ولكننا اكتشفنا أن الشعوب العربية لم تكن جاهزة للتغيير فاغتالته ومكنت للنظم السلطوية القديمة أن تعود في ثوب جديد.. كنا نأمل في نبضة نمو عظيمة, ولكنها أجهضت!!.
سألته : وفيم تفكرون الآن : لا شئ !!! صدمتني إجابته وهالني إعلان عجزه وعجز الجيل الذي يمثله فأعدت السؤال : كيف؟!!! ... قال : هكذا كما سمعت .. فالسياق لا يحتمل شيئا في هذه الظروف غير الانتظار وإعادة الشحن ... وأعتقد أن جيل أطفال المدارس الابتدائية الآن ربما حين يكبر يقود المجتمع مرة أخرى نحو نبضة تغيير قد تنجح أو لاتنجح!!!! . انتهى اللقاء العابر ولكن لم تنته تداعياته إذ تكرر الموقف بأشكال وسيناريوهات مختلفة مع أعداد كبيرة من الشباب ذوي توجهات متباينة ولكن النتائج كانت متقاربة وهي تشير إلى حالة من الاغتراب لدى هؤلاء الشباب ربما لا ينتبه إليها المجتمع المنشغل بلقمة عيشه التي يلهث من أجلها ليل نهار وبانقطاع الكهرباء وحوادث الانفجارات هنا وهناك والثرثرة الإعلامية الخالية من المضمون أغلب الوقت, والأحزاب السياسية الورقية المتنازعة على مقاعد مجلس النواب.
والشباب المغترب ينتمي إلى عدة فئات منها: الشباب الثوري الذي فجر الثورة وقادها ثم رآها تختطف منه وتتحول عن مسارها في أكثر من اتجاه, وشباب التيار الإسلامي الذي عاش يحلم بدولة ذات مرجعية إسلامية تمثل نموذج الحضارة الإسلامية في مراحل ازدهارها, والشباب الذي حلم بالتغيير من أجل التغيير لأنه تضجر بإيقاع الحياة البطئ والقديم والمتدهور, والشباب الذي كان يحلم بوطن جديد يعطيه حلم العيش الكريم ويعطيه الأمل في تحقيق ذاته بين أهله وناسه.
ونستطيع أن نوجز مظاهر حالة اغتراب الشباب في النقاط التالية:
1 – غياب الحلم في العيش الكريم في وطنه, وبعضهم ينقل حلمه خارج الحدود فيفكر في الهجرة ويسعى إليها وينفصل وجدانيا عن الوطن ومشاكله وهمومه.
2 – ضعف الانتماء, حيث يشعر بأنه لم يجد نفسه في هذا الوطن, وأن الانتماء إليه بحالته الراهنة لا يسعده ولا يشرفه.
3 – اللاهدف, إذ تضيع بوصلة التوجه وتفقد الأهداف قيمتها وشحنتها وجاذبيتها.
4 – اللامعنى, حيث تفقد الأشياء والأحداث وتفقد الحياة كلها معناها وتصبح خالية من الروح والجوهر والبريق.
5 – ضعف الهوية أو فقدانها, إذ لم يعد يعرف على الوجه اليقين من هو؟ ... وماذا يريد ؟.
6 – العزلة الاجتماعية, حيث ينفصل عن السياق الاجتماعي وينكفئ على ذاته لأنه لا يتناغم مع هذا السياق.
7 – اللامعيارية, وهي تحدث حين يتأكد للشخص أن الأمور تسير بشكل عشوائي ولا يحكمها قواعد أو قوانين أو ضوابط, أو أنها تسير بقوانين القوة والسيطرة والغلبة وليس بقوانين الأخلاق.
8 – التشيؤ, أي شعوره كما لو كان شيئا تافها في هذا الوجود وأنه فقد قيمته وكرامته وحقوقه كإنسان.
9 – العجز واليأس وقلة الحيلة والاتجاه نحو العدمية واللاجدوى والتسليم السلبي بالواقع رغم رفضه وكراهيته.
10 – نوبات التمرد, وقد تأخذ شكلا صريحا في صورة غضب أو سخرية أو استهزاء أو عنف لفظي أو جسدي, وقد تتحول مع الوقت إلى حالة مستتبة من العدوان السلبي حيث يميل الشاب إلى مقاطعة كل شيء والبعد عن كل شيء وهو ما نسميه "صمت العناد والتجاهل".
والمجتمع يخسر كثيرا حين يصاب شبابه أو قطاع كبير من شبابه بهذه الحالة من الاغتراب خاصة وأن الشباب (تحت سن 40سنة) يمثلون حوالي 40% من المجتمع, ليس هذا فقط ولكنهم يشكلون المرحلة الأكثر حيوية ومبادرة وعطاءا وإبداعا وقدرة على مواكبة العصر ودفع عجلة الحياة. ولا يحل هذه المشكلة تمثيل الشباب بأعداد هزيلة ورمزية في بعض المواقع, أو كثرة الحديث السلطوي أو الإعلامي عن أهمية دور الشباب, فالواقع يكذب كل ذلك ويعلن بوضوح أن العواجيز ما زالوا هم المسيطرين وأنهم يضبطون نبض المجتمع على إيقاع قلوبهم البطيئة ويفكرون بمنطق الماضي ويتقلص لديهم الحاضر والمستقبل الذي لا يمتلكون مفاتيحه وأدواته الرقمية والعصرية والسريعة.
واقرأ أيضا:
هندسة العقل وعمران الأرض / لماذا تدهورت أخلاقنا؟ / الأخلاق فن الحياة / الحياة الممتلئة