البئر أظلم عميق..
سمعت صراخهم..
_أتسمعون يا رفاق؟، هنالك من يصرخ..
_عاد لما كان عليه..
_أنت تسمع ما لا نسمع، وترى ما لا نرى..
_عدت إلى جنونك من جديد..
_الدليل أننا خمسة أفراد، ولم نسمع شيئا..
حطمت دائرة الأذرع المغلقة، المبطنة بضحكات السخرية والاستهجان..
_إلى أين ذاهب؟
تدلت أصواتهم في الهواء كثمار مجوفة..
_إلى البئر حيث يصرخون..
_دعاه أنه مجنون..
_لن يجد البئر، وسنكون في استقباله بنكات لاذعة..
_سيكون تسليتنا الوحيدة هذا المساء..
غادرتهم مسرعا، وانتهى لغطهم عند الخط الفاصل بين الشمس وحمرة البحر الهادئ حتى ذاب كعدم لم يكن..
إلى الأمام، وعلى بعد بضعة خطوات انفجر بركان الصرخات..
تناثر الزعيق وكلمات الغوث كالحمم من فوهة بئر يقذف ما فيه نحوي بغضب وقوة..
بخار ودخان وعواء بشري مرعب لامس جلدي دون أن أشعر بحرقة أو ألم..
_من هناك؟..
_نحن هنا في الأسفل..
بدا التشابه بين الأصوات التي ودعتني بسخريتها قبل قليل وبين بوق الاستغاثة الجماعي واضحا..
_من أنتم؟
_ من سخر قبل لحظات منك..
_كيف سقطتم في البئر، وقد تركتكم خلفي؟..
_لا ندري.. هات لنا بحبل، واربطه بصخرة لعل أحدنا يخرج ويعين من بقي على الخروج أيضا..
_لا أملك حبلا..
_مد لنا يدك..
_البئر ليس عميقا..
_لكنه شديد اللزوجة..
_لا نستطيع التسلق نحو الأعلى..
تدلت ذراعي صوب عتمة شديدة..
_هل ترون يدي؟
_إني أرى سبابتك
_أنا لا أرى سوى إبهام..
_لا ليس هناك سوى الخنصر..
_كلا إنه بنصر فحسب
_أيها الحمقى هذا إصبع الوسطى ولكنه شديد الضخامة..
شعرت بإبهامي يكاد أن يتحطم تحت ضغط يد هائلة الحجم..
_اترك إبهامي وأمسك بيدي كلها..
_الظلام شديد لا أرى سوى الإبهام..
_أنا سأتعلق بالخنصر فهو واضح أمامي جدا..
_أنا سأمسك الوسطى الضخمة..
_وأنا لدي السبابة..
_وهذا البنصر يبدو لي كعمود كبير..
_أيها الأغبياء اتركوا أصابعي.. إنكم تسحبونني نحو الظلام، اتركوا أصابعي، ليمسك أحدكم بيدي كلها، لا يمكن أن أخرجكم جميعا..
كادت أصابعي أن تغادر أماكنها، والأيادي تطبق عليها وبإصرار شديد..
أصبح نصف جسدي في عتمة الهوة..
رفست الأرض بساقي وأنا أقاوم السقوط..
_اتركوا يدي..
تمادت صرختي برفرة نحيلة مغتالة سكون خمد بين أرض وسماء.. إلا أنها كانت متأنية بموازاة سرعة التهام الهوة لي..
أحاط بي الظلام واللزوجة معا..
سمعت قهقهة أحدهم في الأعلى حيث لم يعد بإمكاني أن أرى أي شيء..
_انظر إلى هذا الغبي، قد رمى نفسه في بئر عميق لا قرار له..
_قد صدق حقا أن هنالك أناسا في البئر..
_صدق الأصوات التي ضجت في رأسه..
_هذا الجنون بعينه..
_اتركوه في البئر، إنه يستحق البقاء هناك..
ابتعد ضجيجهم.. ساد الصمت بعد رحيل آخر خطوة..
أحاط بي طوق هائل من أشواك الوحدة واليأس وبدا كأنشوطة مشنقة معدة لقتلي..
لا أظنهم سيسمعون صراخي..، فهم لا يسمعون ما أسمع..
وإن سمعوا.. فلا أظن أن لديهم رغبة برؤيتي على وجه الأرض مرة أخرى..
واقرأ أيضاً:
غوانتانامو إبليس.. / جدي دافنشي / ابحثْ لك عن نهاية أخرى.. / يوم تمردت / عقب ليلة مع أمير داعش/ قصص قصيرة جدا