كانت السعادة تغمرنا كمزارعين في قطاع غزة، عند حلول عام المتدينين "الحريديم" اليهود (عام الحرام، أو عام تبوير الأرض)، والذي يأتي على رأس ستّة أعوام عبرية، حيث تحظُر معتقداتهم الدينية، زراعة أو قِطاف أو أكل ثمار الأراضي التي يمتلكوها، وأن عليهم – كشرط ديني- ابتياع ما يحتاجونه من غير اليهود، بغية توفير احتياجات إسرائيل اليومية من الزراعات الموسمية، ولهذا فإنهم يتّجهون إلى المنتوجات الزراعية الفلسطينية، وبدون أيّة شروط أو مقاييس أو معايير خاصة، على أن هذا التوجّه لا يقتصر على هذا العام فقط.
وبناءً على ما تقدّم، فإن ذلك العام، كان يُمثّل لدينا عام رحبٍ وسَعة، باعتباره عام الخير والنعمة واسترجاع الهيبة المهنيّة والقيمة الزراعيّة الفلسطينية بشكلٍ عام، سيما وأن الأعوام الفائتة كانت عادةً ما تُطيح بالمزارعين وبمجهوداتهم، وتجذبهم أكثر نحو الخسارة، بسبب عِظم التكلفة وكساد المنتوجات، لغياب مصارف تسويقها على الأقل، وليست من جهة مُهتمّة، أو من تمد يد المساعدة بشيء ما، وأحياناً بالكاد تقيهم رمق الحاجة، حيث أن من تُكتب له النجاة منهم، هو من يخرج من موسمهِ بسلام - لا له ولا عليه-، وربما كان صاحب الحظ فقط، وعلى مدار سنين طويلة، هو الذي يُعينه حظّهُ على اختيار أن يفعل واحداً فقط من ثلاثة، أن يبني بيتاً أو يُزوج ولداً أو يحجّ إلى بيت الله، لهذا كان العام يُمثّل ذروة السرور والفأل الطيّب لديهم وعلى نطاقٍ واسع، فالارتزاق بشكلٍ جيّد، وحيازة المزيد من الأموال الوافرة باتت مضمونة، وما عليهم إلاّ الجدّ والاجتهاد، من أجل زراعة ما لديهم من الدونمات والأفدنة، وبمختلف أنواع الخضار والتوابل، للاستفادة من هذه الفرصة بعد طول غياب.
عام واحد، من غير (عام الحرام)، أنقذ حياة المزارعين، الذين ما زالوا يذكرونه إلى الآن، كذكرى نصر الكرامة، أو نصر أكتوبر، باعتباره عام الغنى والرفاه، وهو العام 1982، وذلك بسبب وصول المنتوجات الزراعية الفلسطينية إلى الأسواق اللبنانية، وربما تجاوزت إلى داخل الحدود السوريّة، بفعل الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانيّة، والذي أطلقت عليه إسرائيل اسم: عملية سلامة الجليل أو عملية الصنوبر، حيث حاز المزارعون على موسمٍ زراعيٍ خيالي، كونه أدرّ عليهم مبالغ ضخمة من جراء تواجد منافذ تسويق طارئة، وبالتالي غلاء الأسعار، التي اعتلت كافة أنواع المنتوجات الزراعية التي قاموا بإنتاجها، وعلى سبيل المثال تراوح سعر صندوق الكوسا 10 كغم، بين 30- 50 دولاراً، أي 3- 5 دولار لكل كغم واحد.
كان الحاخام اليهودي المصرّح به دينيّاً هو فقط، المسموح له بمرافقة الشاحنات الإسرائيلية إلى المزارع الفلسطينية داخل القطاع، للوقوف على عمليات التعبئة والشحن، لتحميله مسؤولية الشهادة والتوقيع بختمه، بأنها منتوجات فلسطينية صافية، وغير يهودية، وهي صالحة حسب الدين والعُرف اليهوديين، وهي مُطابقة للطعام (كوشير) أي الطعام الحلال.
للوهلة الأولى، هكذا كان التفكير لدينا - نحن عامة المزارعين-، بأن هذا العام هو (عام) ديني يهودي، وهو عامٌ مجزي بالنسبة لنا، وحتى الوقت القريب، كان هناك من يُسوّق بأن له تداعياته بالنسبة لليهود المتدينين ولإسرائيل بشكلٍ عام، حيث اعتبروا أن مئات الملايين من الدولارات ستذهب عليهم هدراً، من جراء تبوير الأرض، وأن المزارعين الإسرائيليين سيتعرضون لخسائر فادحة بسبب توقفهم عن العمل، وأن الحكومة الإسرائيلية ستخسر أيضاً، بسبب أن عليها الالتزام بإلقاء التعويضات اللازمة لهم، إضافةً إلى أن الدولة ستعاني نقصاً في المنتوجات، وبالتالي الدفع أكثر في مقابل استيرادها.
لكن الحقيقة تقول بأن هناك مقاصد جوهرية - مكريّة وخبيثة أخرى- لدى اليهود المتدينين والإسرائيليين عموماً، تكمن وراء العمل ومنها: أن (عام الحرام)، وعلاوة على إظهارهم لاحترامهم وتقديسهم للأعراف اليهودية والموروثات التوراتية، فإنه يعتبر لديهم ومن دون الخلائق، كونهم شعب الله المختار، عام عبادة وتقرّب إلى الرب، يتوجب عليهم خلاله، التفرّغ نحو أداء العبادات والطقوس التوراتية، ومضاعفة النشاطات الاحتفالية والتربوية الدينية الأخرى.
كما أنه ووفقاً للتقاليد اليهوديّة، فإن الامتناع عن زراعة الأرض، هو اعترافٌ بقيمتها المثلى ولهدف إراحتها، بعد عنائها ستّة أعوام متتالية، كي تستعيد بكارتها، وتجدد عافيتها وخصوبتها، ولهذا أُطلق علي هذا العام اسم (عام استراحة الأرض).
أيضاً - وهو الأهم- فإن العقيدة التربوية الدينية لدى اليهود بشكلٍ عام، تعتبر أن التحوّل لمنتوجات الأغيار وسواء فلسطينيين كانوا أو غيرهم، كونهم يملكون المال، هو بمثابة استغلالاً لهم وتطويعاً لأعمالهم، التي ليست كالعمل العبري، وانتهاكاً لأرضهم التي لا قيمة لها، كالتي تحوزها الأرض اليهودية.
وبرغم ممارسات التحايل والالتفافات الدينية، في شأن توفير تلك المنتوجات في إطار المحافظة على الأرض، نظراً لتطورات الأحداث السياسية والأمنية داخل المناطق وحول العالم، كلجوئهم إلى الزراعة في تربات صناعية خاصة، ووجود فتاوٍ حاخاميّة قديمة ومتجددة، لكسر التقاليد التوراتية، وللحدّ من شدّة ذلك الحظر، إلاّ أن (عام الحرام) لا زال باقياً في الوجدان اليهودي بكل مفاهيمه ومعتقداته المُضافة أيضاً، ولهذا نرى الحاخامات اليهود يُخاطرون بحياتهم حين يطوفون في مناطق الضفة الغربية وفي أنحاء المملكة الأردنية أيضاً، من أجل المحافظة على تعاليم التوراة والتقاليد اليهودية الموروثة، والتي تكدّست بقوّة في ليالي وأيّام هذا العام.
واقرأ أيضا:
صهيونية آيلة للسقوط.!/ إسرائيل تسوّق إنسانيتها!/ القوّة وحدها لا تُعيد الهدوء والاستقرار!!/ تفجيرات القطاع ذات ألوان إسرائيلية!