(إسـرائيل) هي اليوم عبء مالي وسـياسـي كبير على أمريكا وعلى مصالحها في العالمين الإسـلامي والعربي؛ فلم تعد (إسـرائيل) وشـواطئها فقط هي المتاح الأسـاس للتسـهيلات العسـكريـة الأمريكيـة في الشـرق الأوسـط ـ كما كانت في حقبـةٍ طويلـة في الحرب الباردة ـ ولم تعد (إسـرائيل) مصدر أمنٍ وحماية للمصالح الأمريكيـة، بل إنَّ تلك العلاقـة الخاصَّـة معها أضحت هي السـبب في تهديد مصالح واشـنطن في بقعـةٍ جغرافيـةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسـي إلى المحيط الهندي، ويعيـش عليها مئات الملايين من العرب وغير العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلاً بل وسـائر خيراتهم الاقتصاديـة ارتباطاً شـديداً الآن بالشـركات والمصالح الأمريكيـة.
ولأنَّ واشنطن رفضت سابقاً دعواتٍ عربيةٍ ودولية لعقد مؤتمرٍ دولي لتحديد "مفهوم الإرهاب" وللفرز بينه وبين حقِّ مقاومـة الاحتلال، فإنَّ المفهوم الأمريكي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره. فقد أعطى هذا المفهوم الأمريكي للإرهاب "شرعية" أمريكية للممارسات الإسرائيلية العدوانية المتكررة على الشعبين الفلسطيني واللبناني. وكانت حصيلة هذا المفهوم الأمريكي، ونتيجةً للجرائم الإسرائيلية، ردود فعلٍ عديدة من المظلومين في ظلِّ هذا المفهوم وممَّن هم ضحايا لهذه الجرائم.
إنّ إدارة أوباما معنيّة حالياً بالرؤية الشاملة للصراعات الدائرة بالمنطقة، وحتماً فإنّ الملفّ الفلسطيني هو أساس مهم في هذه الصراعات رغم التهميش الحاصل الآن للقضية الفلسطينية. فالتشويه الطائفي والمذهبي يحصل حالياً للصراعات الحقيقية في المنطقة ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً من هو العدوّ ومن الصديق، وفي أيِّ قضية أو أيّة معركة، ولصالح من؟!
المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأمريكية السابقة التي وضعت غزو العراق، منذ مطلع العام 2001، في قمّة أولوياتها، وقبل الأعمال الإرهابية في أمريكا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسـرائيلي بعدما كانت الأولوّيـة هي لملفّات هذا الصراع في نهاية إدارة (جورج بوش) الأب عبر مؤتمر مدريد عام 1991، ثمّ في سنوات إدارة (كلينتون) حتى آخر شهر من وجوده في البيت الأبيض.
فلو ضغطت الإدارات الأمريكيـة في السـابق على (إسـرائيل) للانسـحاب من الجولان والضفـة والقدس وغزّة، ومن الأراضي اللبنانيـة كلّها، هل كان للمنطقـة أن تشـهد ما شـهدتـه من تصعيد عسـكري وتأزّم سـياسـي خطير في العقدين الماضيين!؟
إنّ غياب السـلام الحقيقي يسـتحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسـة حقّ مقاومتـه. وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يسـتحضر الدور الأجنبي الدولي والإقليمي. وغياب الوفاق الوطني الحقيقي في أيّ بلد عربي هو الذي يُشـجّع الآخرين على التدخّل بشـؤونـه وتحويل أرضـه إلى سـاحـة صراعات.. وكم هو جهلٌ عربي كبير حينما يحصل هذا التهميـش للقضيـة الفلسـطينيـة حتّى في تفاصيل الأوضاع العربيـة الداخليـة. ولعلّ بعض الشواهد التاريجية مهمّة في هذا الحديث: عدوان ثلاثي إسرائيلي/ فرنسي/ بريطاني على مصر في العام 1956 لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية. أمّا في لبنان، فقد بدأت فيه حربٌ أهلية دامية وطويلة في العام 1975 ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلح وغير المسلح. فهل يمكن أن يشـهد المشـرق العربي اسـتقراراً دون حلولٍ عادلـة لحقوق الشـعب الفلسـطيني؟! أليسـت أوضاع المنطقـة العربيـة كلّها تتأثر بمجريات الصراع العربي مع (إسـرائيل) وبالمشـاريع الاسـتعماريـة الداعمـة لها؟!ألم يكن تفكيك السـودان مؤخراً ومحاولات تقسـيم العراق ولبنان وغيرهما، مصلحـةً وهدفاً إسـرائيلياً يتمّ العمل لأجلهما منذ حصول نكبـة فلسـطين قبل أكثر من سـتـة عقود؟! أليس كذلك هو حال كثيرٍ من الدول العربية التي يرتبط الاستقرار السياسي والاقتصادي فيها بمصائر الحروب والتسويات مع (إسرائيل)؟! أليس أيضاً تحجيم التدخّل الإقليمي الإيراني والتركي في الشئون العربية أمراً يرتبط في مستقبل القضية الفلسطينية وما لهاتين الدولتين من علاقات وتأثير في الصراع العربي مع (إسرائيل)؟!
لكن مشـكلـة الرئيـس (أوباما) الآن، في أجندتـه الشـرق أوسـطيـة، هي ليسـت مع خصومـه الدوليين والإقليميين بل مع أقرب حلفائـه الآن؛ فالأشـد خطورة على اسـتراتجيـة التحرّك السـياسـي الأمريكي الآن مصدره (إسـرائيل) وما لديها من نفوذ سـياسـي وإعلامي مؤثّر في الولايات المتحدة وفي دول أوروبا. وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأمريكي/الأوروبي مع طهران، وأطلق التحذيرات العلنية من الوصول إلى اتّفاقات مع إيران حول ملفّها النووي، إذ أنّ (إسرائيل) ترفض من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهماتٍ دولية معها!؟
لذلك، من الصعب أن تخضع (إسـرائيل) الآن للمطالبـة الأمريكيـة والدوليـة بوقف الاسـتيطان، وهي لن تقبل حتماً بتقسـيم القدس ولا بحلّ قضيـة اللاجئين ولا بإقامـة دولـة فلسـطينيـة مسـتقلـة ذات سـيادة على حدود العام 1967..!! ثمّ إن (إسـرائيل) لا تجد مصلحـةً إطلاقاً في الائتلاف الدولي الذي تقوده واشـنطن ضد "داعـش" والذي يقوم الآن على التوافق الغربي مع إيران وعلى العمل لإنهاء الأزمـة الدمويـة السـوريـة بتسـويـة سـياسـيـة تحافظ على وحدة الكيان السـوري وتُعيد بناء الدولـة السـوريـة على أُسـس سـليمـة.
هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين استرايجية (إسرائيل) وبين أجندة (أوباما) التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأمريكية أولاً، لكن يبقى الأساس في عدم تراجع إدارة (أوباما) نفسها عن هذه "الأجندة"