"وما ولادتنا الأولى إلا مرحلة انتقال من رحم الأم لرحم الحياة, ويبقى الموت هو الولادة الأبديه للروح..."
بسرعة خاطفة, لم يستطع معها تمييز مشهد من آخر, مرت أمام عينيه لقطات متسارعة لمراحل حياته منذ بدايتها, تتبادر إليه أصوات مدوية لا يعلم مصدرها, لا يستطيع تمييز صوت من آخر. وما هي إلا لحظات, حتى اختفت اللقطات المتسارعة وبدأت الأصوات بالتلاشي وعم السكون والهدوء, أغمض عينيه مستسلما, قوة ما تسلب قواه وتشل عقله عن أي تفكير أو استيعاب.
لا يعلم كم مر من الوقت، لكنه بدأ يتنبه على أصوات منها ما ينادي باسمه ومنها ما اختلط بالبكاء والنحيب, حاول فتح عينيه ليتبين مكانه أو ما يحدث, لكنه فشل وظلت هذه القوة الغامضة مسيطرة على كل جسده وحواسه, لم يتنبه به غير سمعه فقط, أنصت السمع لما يدور حوله، تبين من بين الأصوات صوت أمه وأبيه, إخوته, زوجته, جميعهم بحالة حزن وانهيار ينادون عليه يترجونه أن يفيق ويطمئن قلوبهم الملتاعة, حاول الرد عليهم لم يستطع, حاول حتى بإشارة من إصبعه لكن جسده لم يطاوعه، وشعر أنه فاقد السيطرة على جسده وأن أعضائه بحالة عصيان وتمرد.
أكثر ما أحزنه كان صوت نحيب أمه, ممسكة بيده تحادثه ترجوه أن يفيق. حاول أن يشد قبضته على يد الأم ليتواصل معها ولو بإرشارة بسيطة, لكنه شعر بالعجز وخذله جسده, بكى لبكاء أمه ونحيبها لكن بدون أن يرى أحد ممن حوله دموع عينيه, حتى الدمع استعصى عليه.
ماذا حدث؟ لماذا فقدت السيطرة على جسدي وحواسي؟ علي أن أتذكر آخر ما حدث لي.. كنت عائدا من عملي, الطريق مزدحم كالعادة, لا أتذكر بعدها إلا أصوات مدوية, رأيت عمري يمر أمام عيني كشريط سينمائي متسارع, وبعدها.. لا أتذكر، تكلم أحد ما, لكنه صوت غريب عنه, لم يستطع تمييز صاحب الصوت..
"الحادث كبير ومروع. يدهشني أنه مع ذلك لا توجد به إصابات ظاهرة كما ترون, وكأنه لم يتعرض لأي حادث مطلقا.. كان هناك نزيف داخلي تمت السيطرة عليه بغرفة العمليات وتم نقل دماء لتعويض ما نزفه بعد الحادث, لكنه لا يستجيب لأي محاولات إفاقة, فليس أمامنا غير الانتظار هو الآن بين يد الله وحده"
"هذا الصوت المدوي كان صوت حادث تعرضت له.. نعم, هذا ما حدث. لكن لماذا أنا بهذه الحال؟ لماذا يقول هذا الرجل الذي هو غالبا الطبيب أنني لا أستجيب لأي محاولات إفاقة؟؟"
"إنني أسمعكم.. أسمعك يا أمي.. وأنت يا أبي.. وأسمع بكاءك زوجتي بل وأشعر بيديك تقبض على يدي بهلع وخوف.. وحب، كيف لم أفق بعد؟! أسمعكم وأشعر بكم.. لكن لا أستطيع الحراك .. لا أستطيع أن أفتح عيني .. فقدت سيطرتي على جسدي, بل أصبح ليس جسدي.. إنما فقط وعاء يحوي عقلي وقلبي"
(هو الآن بين يد الله وحده) هذا آخر ما أخبره الطبيب.. إذن أنا بين الحياة والموت؟؟ لا يبعدني عن الحياة غير أن يستجيب جسدي لي فينهي عصيانه علي. ولا يبعدني عن الموت غير أن تتوقف أنفاسي, أنفاسي التي هي الآن دليل لهم إنني لا أزال على قيد الحياة.
"أنا الآن ليس لي أي إرادة على ما كان من جسدي تحت سيطرتي!! فكيف سيكون لي إرادة على ما كان دائما خارج سيطرتي, قلبي وعقلي وروحي؟! وها أنا ذا معلق بين الحياة والموت, أسمعهم ولا يسمعونني, أشعر بهم ولا يشعرون بي" ولكن أليس هذا حال الأموات.. يسمعون زوارهم ويشعرون بهم؟؟ إذن أنا لست بحي.. وهذا الطبيب مخطئ عندما أخبر أنني بحالة غيبوبة فقط, آآآه أنا بالفعل غادرت الحياة!! لكن لماذا يظنون إنني بغيبوية؟ دقات قلبي وتبادل أنفاسي ما بين شهيق وزفير؟!! نعم, هو ذلك.. هذا هو المؤشر الوحيد لديهم أنني لا أزال على قيد الحياة.. آآه يا إلهي .. أنت وحدك تعلم أي الدارين أتبع الآن!! "أنا الآن روح معلقة بين الحياة والموت, روح برحم الحياة ما إن يلفظني هذا الرحم فلا يكون لي وجود بهذه الدنيا"
تابع الإنصات للأصوات حوله. لا تزال أمه تبكي منهارة, والزوجة بجواره يشعر بأنفاسها اللاهثة الملتاعة وهي تلثم بلهفه على راحة يده. تمنى لو يستطيع الصراخ بأعلى صوته.. حاول النطق.. أن يحرك شفتيه.. يشد على إصبع زوجته بين يديه.. لكنه عجز عن كل ذلك!! آآه ما أقساه من إحساس. فما أنا الآن إلا عقل بدون جسد, وقلب أخرس. فما فائدة جسد تعصى أعضاؤه أوامر العقل؟! وما فائدة قلب لا يستطيع بث مشاعره لمن حوله؟!
توقف عقله عن التفكير للحظات, عندها أدرك أن الشئ الوحيد الذي يؤنسه الآن هي أفكاره وتساؤلاته بينه وبين عقله, ردد بين نفسه "إن كنت الآن أتبادل الأفكار مع عقلي, فمع من يتشارك عقلي الأفكار؟ ما هذا الشيء الذي لا زال حيا بي يتبادل الأفكار مع عقلي, هل هي نفسي؟؟ القلب؟؟ أم الروح؟؟" كل ما هو ظاهر للناس حولي, له مظهر الميت... وكل ما هو مخفي بي لا يزال حيا ولم يمت بعد.
ومع ذلك أُعد أقرب للأموات منه للأحياء!! فدبيب الحياة فيما أرقى ما بالإنسان, كالعقل والروح, يعد أحد أنواع الانتفاء من الحياة, طالما لم يصاحبه ما يدل على هذه الحياة, جسدي الآن خارج عن نطاق الحياة المعروفة للبشر, ولولا تردد أنفاسي لأعلنوا وفاتي نهائيا. هنا جاءت إليه فكرة أدهشته لدرجة الفزع, ماذا عندما يحدث العكس؟!! عندما يموت العقل أو القلب بينما يظل الجسد حيا, فموت العقل والقلب أحيانا لا يكون بخروج الروح منهما.
"يا الله" حاول سريعا السيطرة على أفكاره, أن يجعلها تتوقف.. فهي تزعجه أكثر ما تؤنسه. حاول الانشغال باستعادة ذكريات من حياته, طفولته, أول حب, زواجه, لحظة ميلاد طفله.. لحظة أن احتضنت طفلي الأول.. آآه ما أجملها من لحظة, لكن..!! أليس حالي الآن كحال الطفل برحم الأم؟ فما ولادتنا الأولى إلا مرحلة انتقال من رحم الأم لرحم الحياة, والموت هو الولادة الأبدية للروح سريعا ما عادت الأفكار تتسلل .. إذن وصف الحياة أكثر شمولا مما كنت أظن, ولا يكون أي كائن حيا, إلا إذا كان كل ما به حيا, وليس فقط بدبيب الروح به, إنما حي بمعنى أنه يشعر ويستجيب, حي كما خلقه الأول, على فطرته، "فالفطرة هي الحياة.. نعم هي الحياة"
راق له أن عقله يخاطبه, وروحه تنصت لهذا الحديث.. حتى أنه تبسم عندما تخيل عقله صديقا له.. فلم يحاول مجددا الهرب من الأفكار إنما استأنس بها, واستمر الوقت يقتات على لحظات الزمن, وهو شارد بين الأفكار والتساؤلات.. فكر في معنى فطرة القلب والعقل والجسد.. هذه المعاني والمفردات التي لم تخطر له يوما على بال.. بل لم يتلفظ لسانه بها من قبل..
"نعم للقلب فطرة, أن يكون قلبا نقيا, قريبا من خالقه (يرجف) قبل أن ينبض، لكن كيف تكون فطرة العقل؟؟ فطرة العقل ببصيرته, يفكر ويتأمل ويلاحظ لا يكون غافلا عن التأمل بملكوت الله ومعنى الحياة, إن للعقل عيونا ترى وتتأمل ومن يهملها تفقد بصرها ولا يبقى عنده غير عيون تنشغل ببريق الحياة.. فطرة الجسد هي ترجمة تأملات بصيرة العقل ودمجها مع إشارات القلب الحي, لينتج عن الجسد كل فعل بمكانه وكل لفظ بمحله, فطرة الجسد هي ترجمة تأملات العقل, ونقاء القلب, لأفعال وأقوال. سمع عقله وكأنه يهمس له بهدوء وحنان: "حياة كل جزء بفطرته, والتخلي أو التغير عن هذه الفطرة تجعل هذا الجزء خارج نطاق الحياة, وإن ظل حيا.. لأن الحياة نفسها لها لغتها الخاصة.. والفطرة هي روح الحياة.. للقلب لغة وللعقل لغة, للجسد لغة, لغة يفهمها كل ما بالإنسان, لغة هي اسمها روح الحياة"
لأول مرة يشعر ببعض الحبور ولو قليلا.. رغم تعلقه ما بين الموت والحياة إلا أنه طوال ما مضى من حياته لم يحظ بمثل هذه اللحظات للتأمل والتفكير, لم يعِ يوما الفرق بين موت الإنسان وموت العقل أو القلب, وإن هناك أنواعا وأشكالا كثيرة من الموت.
لم يتوصل يوما إنه توجد لغة أخرى للحياة, لغة يتخاطب بها عقله الآن مع روحه وقلبه وتسمعها أعضاؤه, لغة غير مرتبطه بجنس أو مستوي ثقافي, إنما هي لغة الحياة, روح الحياة. وخلال هذه اللحظة لاحظ انبعاث ضوء, خافت إلى عينيه ضوء يقوى شيئا فشيا, حتى فتح جفون عينيه كاملة, من خلال بعض الضباب والغيم تبين ملامح أمه تكسوها الدموع, وبشفتين تلهثان بهلع تحمد الله, أخذ الضباب في التلاشي, حتى أصبح يرى بوضوح وجه أمه وزوجته.. وحتى يتأكد أخذ بالضغط على كف زوجته بين راحتيه, وبادلته زوجته بقبله على يديه, وهي تبكي وتهلث هي الأخرى حمدا لله.. عندها علم أن الحياة تمسكت به ولم تلفظه من رحمها. رددت أمه: أخيرا, شهور طويلة كنت أموت جنبك بكل لحظة لكن دايما كان عندي أمل برحمة الله, رددت كمن يحدث نفسه.. شهور طويلة؟؟!!! أظنني لم أغب عن الحياة إلا لحظات، وعندها تذكر الآية الكريمة.. (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).
واقرأ أيضاً:
الحظر / أغنِيَاتٌ لصاحِبَةِ الفستانِ الأسودِ ! / الترهات الماكثة / نا حين لا تدلُ !! / موعد ! / دخـولٌ ومغادرَةٌ! / شـاحِبَةٌ أنتِ ! / وقت لطقطقة الأصابع