لم تكن الوصمة التي ارتبطت بالطب النفسي خاصة بمجتمعاتنا العربية فقط.. فالمتابع للأفلام الغربية على سبيل المثال يجد أنها قد رسخت كثيرا من المعتقدات السلبية المرتبطة بالطب النفسي، ولن أتناول مشكلة الوصمة المرتبطة بالطب النفسي في مجتمعاتنا فلست مختصة بالأمر.. لكنني سأعرض واقعا يواجهه المريض النفسي في مجتمعنا العربي من خلال تجربتي الشخصية وملاحظتي لحالات مشابهة.. ولا أعني التعميم فالأمر ليس دراسة علمية تقوم على نتائج إحصائية بقدر أنها كما قلت تجربة شخصية ومشاهدات اتفق فيها معي البعض.
أسوأ ما يمكن أن تعاني منه في مجتمعاتنا العربية هي المرض النفسي.. بسبب تلك المعاناة التي ستجدها مع جميع الدوائر حولك.. ابتداءا من دائرة نفسك.. التي قد تقاوم فكرة كونك مريض نفسي لما يرتبط به ذلك من معاني الجنون وفقدان العقل أو الضعف وضعف الإيمان..وربما تفضل تسمية الأمر بالمشكلة النفسية أو الأزمة النفسية مبتعدا عن تعبيرات الاضطراب والمرض
إلا أن المعاناة تدفعك في الأغلب إلى الاستسلام في النهاية أن الأمور لا تسير على ما يرام.
وتنتقل المشكلة إلى الدائرة الأكبر.. العائلة والمقربين.. الذين كثيرا ما يزيدون معاناتك بمطالبتك بأن تكون قويا ولا تستسلم لفكرة التعب النفسي.. أو يطالبونك بزيادة القرب من الله والتعوذ من الشيطان.. أو يلومونك لضعفك واستسلامك.. أو يتهمونك بأنك تختار طوعا ما تمر به من حالة نفسية سيئة.. أو ينكرون وجود مشكلة من الأساس خوفا من أن يؤدي ذلك إلى تكبير الأمور وترسيخ الفكرة في ذهنك.
وحينما تتفاقم الأمور يلجأ كثير من المرضى سرا وخلسة إلى الطبيب مع إحاطة الأمر بسياج شديد من السرية خوفا من الوصم بكل ما سبق.. أو خوفا من إصرار الدوائر المحيطة اقتحام خصوصياتك والإدلاء بدلوهم في الأمر.. وقد يحدث ذلك عبر استشارات إليكترونية أو عبر الإنترنت... بينما يقرر فريق آخر مصارحة العائلة أو الأصدقاء بالأمر... فتكون حالة التستر جماعية حيث تتعامل الأسرة مع الأمر بتكتم شديد يرسخ بداخل المريض تلك الوصمة وتلك الاتهامات... وكثيرا ما يمر المريض بمحطة المعالج بالقرآن أو المعالجين من السحر والحسد تحت ضغط الدوائر القريبة لأن فكرة أن المشكلة ترجع لسبب خارجي أكثر تقبلا وراحة للنفس من الاعتراف بوجود مشكلة نفسية تصل لحد المرض أو الاضطراب.
ثم إذا وصل المريض إلى عتبات عيادة الطبيب النفسي قد تحدث معاناة من نوع آخر.
فبعض المرضى (وأحسب أنني منهم) يدخل عيادة الطبيب النفسي محملا بذلك الكم من الاتهامات ومن تلك الوصمة التي ترسخت بداخله.. لذا فقد يجد نفسه لاإراديا يدافع عن نفسه بأنه ليس كما يقولون
فهو يشعر بأنه ليس ضعيف الإيمان.. كما أنه ليس ضعيفا مستسلما يستمرئ الضعف.. كما أنه ليس مجنونا أو مختل العقل
وتكون دفاعاته هذه ومقاومته موجهة أحيانا تجاه الطبيب.
كما أن هناك تلك المفاهيم المشوهة عن تأثير الأدوية النفسية
وحينما يبوح المريض بقلقه من تلك الأدوية للطبيب مثلا يشرح له أن تلك المفاهيم مشوهة وأنه لا قلق من استخدام الدواء
لكن المريض يخرج من عيادة الطبيب ليجد أن الواقع أن تلك الأدوية قد أثرت على أدائه بشكل ما فربما زادت من مدد نومه أو اشتكى من ارتخاء الجسد أو غيره... وهو ما يهدد سياج السرية الذي يحيط به الأمر بالانفضاح أو يؤثر على قدرته على ممارسة أنشطته اليومية..فيصبح ذلك واقعا يعيد إلى ذهنه تلك الصورة المشوهة عن الدواء..فيقرر البعض التوقف تلقائيا عن تناول الدواء دون إخبار الطبيب..بينما يتحدث البعض الآخر مع الطبيب عن الأمر.. لكن الطبيب النفسي يجد أنه ليس من دوره إقناع المريض بتناول الدواء..فهو يعتبر أن الأمر يشبه ببساطة أي أثر جانبي لأي دواء يصفه طبيب باطني أو طبيب مسالك.. وأن المريض عليه طاعة أوامر الطبيب دون مناقشة كما يفعل مع طبيبه الباطني.
الأمر نفسه يحدث حينما يقاوم المريض فكرة إصابته بمرض نفسي.. فالطبيب النفسي يرى أن دوره يتوقف عند إخبار المريض والشرح له بطبيعة مرضه.. ثم على المريض أن يختار الاستماع لنصيحة الطبيب أم لا.. وهو أيضا ما يحدث بشكل تلقائي مع الطبيب الباطني أو الجراح. ففي النهاية لا يملك ولا يحق للطبيب إجبار المريض على الاستمرار في العلاج أو اتباع نصائحه.
لكن الكثير من الأطباء النفسيين في بلادنا لا يلمحون أن مقاومة بعض المرضى الاستسلام للأمر نابعة من تلك الاتهامات والمخاوف والوصمة التي يحيطهم بها مجتمعنا.. وخاصة وصمة ضعف الإيمان.. ولا يفضلون الاستماع مطولا لمخاوف المريض باغتبار أنهم قد عرضوا الرأي الطبي وعلى المريض الاختيار. فتلك القاعدة هي الأصل وهي صحيحة تماما في حال الطبيب الباطني لأن القناعة الشائعة عند السواد الأعظم أنه يتحدث من أرضية علمية فقلما نجد من يجادل طبيبا باطنيا في تشخيصه أو في نوعية وطبيعة العلاج الذي يقدمه.. ولو طالت مدة العلاج لسنوات.
لكن الواقع في مجتمعاتنا أن الطبيب النفسي لا يحصل على تلك الأرضية الصلبة من القناعة المجتمعية بل إنني كطبيبة يمكنني القول بأن كثيرا من الأطباء غير النفسيين يحملون قناعات سلبية وغير علمية عن الطب والطبيب النفسي.
ويكون الضحية هو المريض الموزع بين مخاوفه وبين الطبيب الذي يعتبر أنه ليس في موقع اتهام يجبره على نفي تلك الاتهامات والمخاوف.. فيكون لسان حاله للمريض.. هذا هو رأيي وأنت وشأنك.
ربما كنت قد وصفت الأمر من خلال تجربتي فقط.. لكنني عانيت كثيرا في إقناع كثيرين باللجوء إلى الطب النفسي ثم بعد وصولهم إلى الطبيب يسمح لهم الطبيب بعدم الاستمرار لعدم اهتمامه بالتعامل مع مخاوفهم ودفاعاتهم ضد الوصمة المجتمعية.
واقرأ أيضاً:
أفكار مغلوطة عن الطب النفسي.. لماذا؟ / حدود العلاقة بين المريض والطبيب النفسي مشاركة4 / جلسات العلاج النفسي ليست خلوة / وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا!