يتعرض الطب النفسي إلى انتقادات عدة من بقية الفروع الطبية وأحدها استعمال العقاقير الطبية النفسية التي يسميها البعض العقاقير الناشطة النفسية Psychoactive Drugs إحدى هذه الانتقادات تتعلق بتعدد العقاقير التي توصف للمريض وأعراضها الجانبية القصيرة والبعيدة المدى وإمكانية تفاعلها مع العقاقير الأخرى. الانتقاد الموجه للطب النفسي حول تعدد العقاقير يستحق بعض التوضيح من زاوية وغير منصف بحقه من زاوية أخرى. لا يصعب على أحد ملاحظة تعدد العقاقير التي يتعاطها المريض هذه الأيام مع كثرة الإرشادات الطبية في علاج مختلف الأمراض الطبية الشائعة مثل ارتفاع ضغط الدم وتصلب الأوعية الدموية حتى أصبحت هذه الظاهرة تثير قلق ميزانية الصحة الوطنية في جميع أنحاء العالم1. وقد أصبح الحد الأعلى لارتفاع ضغط الدم يتضاءل تدريجيا ولا يكفي توجيه العلاج نحو ضغط الدم فحسب وإنما الدهون وتركيز السكر في الدم. ليس من الغريب أن يكون معدل عدد العقاقير أكثر من ستة.
الغاية من هذا المقال مراجعة النماذج الطبية النفسية المختلفة المستعملة في التشخيص وتوضيح لنموذج علاجي يستعمله الطب النفسي. لا يطرح المقال حلولا أو استنتاجات وإنما يلقي الضوء على واحد من عدة تحديات تواجه الطب النفسي الآن وفي المستقبل. لكي نفهم النموذج العلاجي الطبي في الطب النفسي علينا أولاً أن نستوعب النموذج الطبي النفسي التشخيصي واحتمال تأثيره على استعمال العقاقير.
النموذج الطبي النفسي التشخيصي:
لا يزال الطبيب النفسي يفكر ويستعمل النماذج التالية في عملية التشخيص خلال تدريبه في هذا الاختصاص.
1- النموذج التدرجي Hierarchical Model : يفكر الطبيب النفسي بهذا النموذج5 ولكنه لا يدون لجوئه إليه إلا فيما ندر. القاعدة العامة التي يتم التدريب عليها هو أن هناك خمسة مجموعات للأمراض الطبية النفسي يمكن استيعابها على شكل هرم. وجود علامة مرضية تشخيصية في مجموعة ما يمحو المجموعات التي تحتها. كان الطبيب النفسي في السابق يوجه العلاج نحو المجموعة الأعلى فقط ولكنه اليوم يوجه العلاج نحو المجموعات السفلى أيضاً مع التوجه نحو استعمال النموذج الثاني.
2- النموذج المحوري التعددي Multi-axial Model : هذا النموذج الذي يتكون من خمسة محاور يحتوي على المحور الأول للاضطرابات النفسية والثاني لاضطرابات الشخصية وثلاثة محاور أخرى تتعلق بوجود اضطراب طبي (المحور الثالث)، دور الظروف الاجتماعية والشخصية (المحور الرابع) وتأثير الاضطراب على أداء الفرد مهنيا واجتماعياً (المحور الخامس). هذا النموذج شاع استعماله ويسمح للطبيب بتشخيص أكثر من اضطراب واحد في المحور الأول فيمكن الجمع بين الاكتئاب الجسيم Major Depression والقلق المتعمم Generalized Anxiety Disorder والحصار المعرفي Obsessive Compulsive Disorder وهكذا. بطبيعة الحال سيكون نتاج ذلك تعدد العقاقير لمعالجة كل تشخيص تم تدوينه. على سبيل المثال المريض المصاب باضطراب الفصام يمكن تشخيصه أيضاً بالاكتئاب الجسيم واضطراب القلق المتعمم بل وحتى اضطراب الشخصية.
مع صدور الطبعة الخامسة للكتيب التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية في عام 2013 (الجمعية الأمريكية للطب النفسي)4 انتهى أمر المحاور الخمسة وتم دمج المحاور الثلاثة الأولى وتحول التشخيص من متعدد المحاور إلى لا محوري Non Axial ويعود السبب في ذلك إلى قلة استعمال المحاور الثلاثة الأخيرة رغم أهميتها في الممارسة السريرية، ولكن هذا التغيير لم يحدث تغييرا في إمكانية حصول المريض على أكثر من تشخيص في آن واحد.
التشخيص الطبي النفسي والمصطلحات:
لو نظرنا إلى النموذج التدرجي أعلاه نرى أن المجموعة الفصامية مفصولة عن المجموعة الوجدانية. هذا الفصل بين المجموعتين ليس بالأمر اليسير في الممارسة المهنية ولأسباب عدة ومن جراء ذلك نرى أن مصطلح اضطراب الفصام الوجداني Schizoaffective Disorder كثير الاستعمال. رغم أن كثيرين يتهمون الطبيب النفسي بعدم بذل الجهد اللازم للوصول إلى التشخيص الصحيح ولكن هناك أسبابا أخرى ربما تلعب دورها في هذا المجال مثل:
1- تغير إطار ومحتوى الأعراض الذهانية هذه الأيام. يعتمد الطبيب النفسي على وصف الأعراض المدونة في كتب الطب النفسي والكثير منها تم تدوينه قبل عدة عقود من الزمن وفي حضارات غربية لاتينية. القاعدة العامة التي يستعملها الطبيب النفسي هي إطار ومحتوى الأعراض فإن كانت مطابقة للحالة الوجدانية يشخص اضطرابا وجدانيا وإن لم تكن يميل إلى تشخيص الفصام. هذه العملية ليست يسيرة ومن جراء ذلك يختصر الطبيب أحياناً الطريق ويستعمل مصطلح الفصام الوجداني.
2- تجنب استعمال مصطلح الفصام من جراء الوصمة الاجتماعية. فمصطلح الفصام الوجداني يفضل استعماله المريض وعائلته أيضا.
3- استعمال عقاقير الجيل الثاني من مضادات الذهان لتوازن المزاج في الاضطرابات الوجدانية. بعبارة أخرى ليس هناك من تأثير على الخطة العلاجية بالعقاقير سواء كان التشخيص هو الفصام أو الفصام الوجداني.
رغم ذلك فإن عملية الوصول إلى التشخيص الدقيق واستعمال المصطلح الصحيح لا تتعلق بالعلاج الطبي فقط وإنما تتجاوزها إلى المسار الطولاني للاضطراب نفسه وتقديم الخدمات العلاجية الأخرى. علاج ورعاية المرضى المصابين بالفصام عملية بعيدة المدى ومسار الاضطراب مزمن سواء استعملنا هذا الوصف أو لم نستعمله، وذلك أيضا لا يساعد الجهود العلمية في البحث عن جينات الفصام.
استناداً إلى الدراسات الإحصائية في جميع أنحاء العالم يمكن القول بأن انتشار الفصام هو 0.5% في المجتمع ومعدل انتشار الفصام الوجداني هو ثلث معدل انتشار الفصام. أي أنه لو كان هناك 42 مريضاً مصابا بالفصام أو الفصام الوجداني لتوقعنا أن هناك منهم 30 مصابا بالفصام و12 مصابا بالفصام الوجداني. (المخطط الأول)
في مراجعة لجلسات قانونية للصحة العقلية في إنكلترا، المملكة المتحدة التي تعنى بمراجعة قضايا المصابين باضطراب عقلي أو نفسي يتطلب العلاج الإجباري تم تدوين التشخيص الذي استعمله الفريق الطبي للدفاع عن أسباب احتجاز المريض خلال عامين. كانت النتيجة أن من 42 حالة تم استعمال مصطلح الفصام الوجداني في 23 حالة والفصام في 19 منها فقط (المخطط الثاني). هذه الحالات تخضع للتدقيق أكثر من غيرها والمقال لا يتسع لمناقشة هذه الملاحظة ولكنه يعكس شيوع استعمال هذا المصطلح.
النموذج العلاجي الطبي:
رغم أن علاج الأمراض النفسية يتطلب العناية بالعوامل الاجتماعية والسلوكية والمعرفية تبقى هناك حقيقة لا يمكن إنكارها بأن الطب النفسي اختصاص طبي يعنى بأمراض نفسية جسيمة وجميعها تحتاج إلى عقاقير.
تستقطب ويجب أن تستقطب الاضطرابات الوجدانية والفصامية أكثر من 80% من مجهود وميزانية الخدمات الطبية النفسية في المجتمع وإن كان الرقم دون ذلك يجب على المؤسسات الصحية مراجعة فعالياتها والخدمات التي تقدمها للمجتمع.
يستهدف الطبيب النفسي تقديم العلاج بأسرع وقت ممكن لحماية وسلامة المريض قبل كل شيء وفي الكثير من الحالات لا يستطيع الفريق الطبي الانتظار طويلاً في الحالات الحادة، ويمكن ملاحظة استعمال النموذج المقابل على اليسار.
هناك بعد وجداني في عدم استقرار المزاج ووجود علامات سرعة انفعال وهوس وغضب واكتئاب لا يمكن الفصل بينها. أما الاستقرار التفكري فنعني به اختلال العملية الوظيفية في المخ في التعامل مع الأفكار والمحفزات الطبيعية وهو ما نعبر عنه بالعملية الذهانية.
أما البعد التنبيهي فهو شعور الإنسان بالتهيج واحتمال فقدانه السيطرة على سلوكه. هذا العامل في غاية الأهمية ويشكل خطراً على الأفراد المحيطين بالمريض نفسه.
القاعدة العامة في السيطرة على وعلاج الأبعاد الثلاثة هي:
1- البعد الوجداني: في الاكتئاب نلجأ إلى مضادات الاكتئاب وفي الهوس موازنات المزاج مثل الليثيوم أو حامض الفالبرويك.
2- البعد التفكري: مضادات الذهان.
3- البعد التنبيهي: عقاقير اليبنزودايازابين مثل اللورازيبام Lorazepam ولوقت محدود جداً.
هذه الأيام ومع توفر عقاقير الجيل الثاني لمضادات الذهان3 يمكن مداهمة الأبعاد الثلاثة بعقار واحد وخاصة. هذه الميزة ربما قد تكون لها فائدتها العملية ولكنها أيضاً لا تساعد على توضيح التشخيص الصحيح وعلاجه بصورة دقيقة.
خاتمة المقال:
هناك عدة تحديات تواجه الطب النفسي واستعمال العقاقير الطبية النفسية. الحقيقة هي أن العقاقير ساهمت أكثر من غيرها في تطور الخدمات الطبية النفسية في جميع أنحاء العالم وبدونها لاستمر الطب النفسي يضع المرضى خلف القضبان وقيود جاكيتة بيضاء. ليس من الإنصاف أن نسمي العقاقير الطبية النفسية جاكيته كيمائية كما يصفها الغلاة من أعداء الطب النفسي.
ولكن هناك ارتباكا لا يزال واضحاً في استعمال العقاقير الطبية النفسية ربما يعكس ما يلي:
1- اضطراب النماذج والتصنيفات التشخيصية الطبية النفسية.
2- الضغوط المادية والاجتماعية في توفير وتقديم الخدمات.
3- وجود فجوة بين توقعات المجتمع من العقاقير وفاعليتها.
ربما سيبحث ويجد الطب النفسي نماذج أخرى علمية2 لتصنيف اضطراباته في المستقبل وبالتالي اكتشاف عقاقير تستهدف عدم التوازن الكيمائي بصورة أدق.
ملاحظات ومصادر:
1- ميزانية الصحة الوطنية في بريطانيا تقارب 110 بليون إسترليني وما يقارب 15% منها على عقاقير و90% من العقاقير مجانية.
2- سداد جواد التميمي (2014): المنظومات السلبية النفسية. موقع مجانين.
3- سداد جواد التميمي (2014): العقاقير المضادة للذهان: إلى متى وإلى أين. موقع مجانين.
4- APA (2013): Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders Fifth Edition. American Psychiatric Association. Arlington.
5- Foulds G, Bedford A (1975): Hierarchy of classes of personal illness. Psych Med 5: 181-192.
واقرأ أيضًا:
على هامش الشيزوفرانيا/ وسواس: تعبير حان شطبه من الطب النفسي/ نفوذ عالم الفضاء على الصحة النفسية الجنسية