بما أن الوساوس الحسية Sensory Obsessions بكافة أنواعها وأشكالها إنما تمثل أعراض أو جزءٍ من أعراض اضطراب وسواس قهري، فإن المقصود في هذا المقال هو التركيز على الإضافات العلاجية اللازمة لهذا النوع من الوساوس وخاصة طرق التغيير المعرفية والسلوكية، ذلك أن طرق العلاج المعتادة في الطب النفسي عادة ما يجدها مرضى هذا النوع من الوساوس قاصرة عن تخليصهم من مشكلاتهم، فرغم أن سبيل العلاج الرئيسي هو التعرض ومنع الاستجابة Exposure and Response Prevention إلا أن أغلب هؤلاء المرضى يحتاجون إلى ابتكار أسلوب تعرض مناسب لخبراتهم المعينة وهي مهمة على الأقل صعبة!، وقد أشرنا في المقال السابق: الوساوس الحسية الجسدية والخارجسدية إلى أننا"نجد مريض الوساوس الحسية ككل مرضى الوسواس القهري يحاول تحاشي المعاناة من خلال محاولة صرف الانتباه عن الفكرة أو الإحساس موضوع وسواسه ومحاولة التركيز على أي شيء سواه فتفشل المحاولة، ويستمر القلق"...... وجوهر ع.س.م للوساوس الحسية هو تدريب المريض على التعرض للخبرة الحسية بدلا من الهرب منها، أي التدريب على تكثيف الملاحظة للعملية الجسدية أو الخبرة الحسية المخشية بدلا من تحاشي الملاحظة خوفا منها، فيؤدي ذلك إلى فك الارتباط الشرطي بين تلك الخبرة الحسية (جسدية أو خارجسدية) وبين القلق... بحيث يتمكن الشخص بالتدريج من التعرض للخبرة الحسية دون قلق ولا توتر.
وقلنا كذلك أن علاج الوساوس الحسية يحتاج أولا لفهم التفسير المعرفي السلوكي لسبب ارتباط خبرة إحساس معين "وعي حسي مفرط" بالخوف والقلق والشعور بالخطر لدى المريض بما يجعله يعطي استجابة وسواسية تتمثل إما في محاولة صرف الانتباه أو الخوف من صرف الانتباه عن ذلك الإحساس وهو في الحالتين يحاول قمع فكرة أو إحساس عقلي مخيف، ويسقط بالتالي في براثن آلية العمليات العقلية المفارقة أو الساخرة Ironic Mental Processes للعقل البشرى (Wegner, 1994) وقد فصلنا في شرحها في الجزء الأول من المقال.
ترتكز وتركز المرحلة الأولى من العلاج على تعليم المرضى أن الانتباه الانتقائي إلى العمليات أو الأحاسيس الجسدية التلقائية أو غير الواعية في السابق ليس أمرا خطيرا في حد ذاته. ففرط الوعي الحسي Sensory Hyper-Awareness بإحساس هو في الأصل تلقائي لاواعٍ أو عابرا يمر بالوعي يمثل خبرة مزعجة للشخص تؤدي إلى رد فعل الخوف والقلق الوسواسي كعقابيل (أو عواقب) لتلك الخبرة، وهو ما يؤدي إلى ارتباطها شرطيا به، إذ تحفز الخبرة الحسية الغريبة أو غير العادية بالنسبة للمريض -وقت حدوثها على الأقل- قلقا وخوفا يبنيان على ويتشكلان حسب التأويلات والتوضيحات المعرفية التي تحفزها تلك الخبرة في الشخص المعين.... وبعد الاتفاق على تلك الصياغة يبدأ المعالج السلوكي المعرفي في طمأنة المرضى أنه بمجرد تبدد قلقهم، فإن فرط الوعي الحسي بل والوعي الحسي المعتاد يتحول لحالته الطبيعية.
ولابد في أغلب الأحيان من تصحيح المفاهيم الخاطئة حول موضوع الوسواس الحسي المعين مثل مدى كون وعي الإنسان بعملياته التلقائية آمنا، وكيف أن قدرته على التدخل الفعلي في نظم تلك العمليات واستمرارها محدودة للغاية مهما كانت درجة وعيه بها، وأن هذا النوع من الأفكار ليس نذيرا للجنون ولا يستمر للأبد...إلخ. (Seay, 2011) ، كذلك يجب الاهتمام بالمحتوى المعرفي للتأويلات والتفسيرات المرتبطة بالعرض المعين فمثلا في حالة مريض وسواس بلع الريق خوفا من الاختناق نجد محتوى معرفيا مختلفا عن مريض وسواس بلع الريق خوفا من تطايره من الفم أثناء الحديث مع آخرين ومختلفا عن مريض وسواس بلع الريق أثناء الصيام ظنا منه أنه يفسد الصيام.
ويفضل أغلب المرضى التدرج مع أنفسهم في التعرض لخبرة الوعي الحسي المخشية لفترات أو مرات متزايدة حتى يتم بالتدريج تقليل القلق المصاحب لتلك الخبرة، ثم يبدؤون في تكثيف التعرض مع التركيز على التأمل المحايد قيد الإمكان للخبرة وكل تداعياتها فيجعلون محفزات الوساوس حولهم في حياتهم اليومية ويرحبون بخبرة تأمل تلك الخبرة بل ويستدعونها كلما سنحت الفرصة،... وأخيرا كلما قل القلق الذي تحدثه الخبرة وتحول المريض من موقف المتحاشي إلى موقف المستدعي كلما تلاشى وقع فرط الوعي الحسي وحدث التعود وتوقفت الوسوسة..... وهناك نوعان من التدريبات يستخدمان في علاج هذا النوع من الوساوس أحدهما هو تدريبات التعرض ومنع الاستجابة في شكل مبتكر ليناسب المحتوى المعين للوساوس، وأما النوع الثاني فمستمد من خبرات النجاح المتراكمة في مجال العلاج النفسي لتطبيق الممارسات التأملية المتأثرة بالروحانيات الشرقية وهو تدريبات المسح الجسدي Body Scan وحالة اليقظة الراضية Mindfulness .
تدريبات التعرض ومنع الاستجابة:
وبعد طمأنة المريض بعدم خطورة وعيه بأحاسيسه، نكون قد مهدنا الطريق لدعوة تلك الأحاسيس واسترجاعها عمدا كوسيلة للحد من القلق... عبر تدريبات التعرض ومنع الاستجابة.... باختصار، يطلب من المريض طوعا الانتباه الانتقائي إلى العملية الجسدية أو الإحساس ذات الصلة بأعراضه. ثم يطلب منه السماح للخبرة المزعجة مهما كانت قوية بأن تبقى حاضرة وتُستدعى في أي وعي (التعرض) مع التركيز على كونها موجودة لكن دون انفعال بها ولا تقييم لها، ومبدئيا فإنه من خلال التركيز عمدا على الأحاسيس (التعرض)، يتوقف المريض عن عادة الاعتماد على صرف انتباهه (منع الاستجابة) كأداة للحد من القلق، وهذه هي مشكلة هذا النوع من المرضى.... وبالتالي يطلب من المرضى استدعاء تلك الأحاسيس والمخاوف المصاحبة لها على مدار اليوم، ولتذكيرهم بذلك التعرض ربما توضع علامات أو ملصقات معينة في المنزل، في السيارة، أو في العمل، لمساعدتهم على الانخراط في التعرض المتكرر طوال اليوم، مما يزيد من احتمال حدوث التعود بنجاح.... إذ وبالتدريج يؤدي التعرض الطوعي المتكرر للأحاسيس المخشية إلى تضاؤل القلق بشكل كبير، كما يزيد اعتياد المريض على تحمل أي وعي أو فرط وعي حسي دون أن يلجأ للتحاشي أو الهروب منه (Seay, 2011).
ومن الممكن لتعزيز التعرض أن يضاف التعرض التخيلي للعاقبة المخشية (حسب المحتوى المناسب) إلى تدريبات استدعاء الأحاسيس، فمثلا يستدعي المريضُ بوسواس متابعة التنفس وعيَهُ بمرات الشهيق والزفير ثم يضاف إلى ذلك أن يتخيل نفسه يختنق وقد توقفت رئتاه بالفعل عن التنفس.... ويستدعي المريض بوسواس بلع الريق لمنع انسداد طريق التنفس والاختناق Choking إحساسه بقطرات اللعاب وهو يراقب تجمعها ليبتلعها أولا بأول.... ثم يضاف إلى ذلك أن يبدأ في تخيل حدوث الاختناق لانسداد الحلق باللعاب!، بينما يستدعي المريض بوسواس بلع الريق أو التفل في المنديل لمنع تطاير الرذاذ أثناء الحديث على الناس نفس الإحساس، ثم يضيف إليه تخيل نفسه وقد بدأ محدثوه يمسحون وجوههم بالمناديل الورقية..... وفي بعض مرضى وسواس الحفاظ على الصيام نجد الانشغال بإمكانية بلع الريق، وضرورة مراقبته والتخلص منه أولا بأول، رغم أن بلع الريق غير مبطل للصيام باتفاق الفقهاء.... وبينما يكفي بعضهم المعرفة فإن آخرين يحتاجون إلى تدريبات التعرض ومنع الاستجابة..... وذلك باستدعاء نفس أحاسيس الوعي بقطرات اللعاب ثم تخيلها تنزلق في جوفه وهو صائم....
وكمثال لحالات وسواس الوعي بعضو معين من الجسد (والذي ينخرط المريض فيه في استشعار ما في ذلك العضو من أحاسيس)، نجد كثيرا من الموسوسين في مجتمعاتنا ينشغلون بإحساسيس المثانة أو القولون كدرجة الامتلاء أو غيرها من الأحاسيس مثل خروج ريح أو نزول قطرة من أحد السبيلين....إلخ بما ينبني على ذلك من شتى العواقب المخشية وغالبا ما تتمثل في إفساد العبادة أو الوضوء مثلا عند المسلمين أو التعرض للقذر عند غيرهم... ومن ذلك ما أسميه وسواس حفظ الوضوء: حيث نجد الانشغال بالأحاسيس الجسدية الحشوية في السبيلين بل فرط الحساسية لها -في حالة وسواس حفظ الوضوء- فنجد الشعور الجسدي المصاحب هو مدافعة خروج ريح أو فقدان التحكم في البول، ويكون ذلك بمتابعة المثانة أو القولون عامة أو خاصة بالتركيز على مخارج الريح أو البول، وذلك فضلا عن القلق والتوتر العام الذي يزيد من إفراز البول بالطبيعة، كما يزيد من توتر الأمعاء وربما يزيد من انتفاخ القولون أيضًا أي أن ردة الفعل الجسدية عادة ما تزيد الأمور سوءا.... وأحيانا تكون العاقبة المخشية لانتقاض الوضوء هي الاضطرار إلى الوضوء في مكان أو ظروف غير مناسبة وأحيانا تكون عدم الانتباه إلى انتقاض الوضوء أو نجاسة الثياب ثم لمس المصحف الشريف أو الصلاة...إلخ.
وبينما يستفيد البعض من شرح التيسيرات الفقهية الخاصة بكل نقطة ويجدون حلا للمشكلة في ذلك، فإن فك الارتباط الشرطي بين ذلك الإحساس الجسدي والقلق أي جوهر ع.م.س يحتاج إلى تدريبات التعرض ومنع الاستجابة في كثيرين من هؤلاء المرضى وتتمثل في استدعاء الإحساس الحشوي المعين مرات ومرات بدلا من تحاشيه أو محاولة صرف الانتباه عنه (أو الخوف من صرف الانتباه عنه) ويشترط أن يكون الاستدعاء على خلفية شعورية معرفية محايدة لا تقيمية ولا تتطلب فعل شيء من جانب المستدعي اللهم إلا الوعي بأنها موجودة دون قلق، وربما يتم تعزيز التعرض في مرحلة لاحقة بتخيل حدوث المخشي منه كنزول القطرات أو خروج الريح، أو رؤية ما يثبت أنه حدث دون انتباه أثناءه، أو أو... إلخ.... حسب ما هي العاقبة المخشية بالنسبة للمريض وكيف يفهمها وهل هي فعلا يمكن أن تحدث؟ وهل لو حدثت ستكون القاضية؟... حسب كل ذلك يكون السيناريو ذي الخلفية الفقهية.
تدريبات المسح الجسدي واليقظة المطمئنة /الراضية:
ومن التقنيات المفيدة في تدريب المريض على التعرض أيضا نجد تدريب المسح الجسدي مفيدا، وينطوي المسح الجسدي على تحويل الانتباه إلى مختلف العمليات الجسدية أو الأحاسيس الجسدية لفترات مقررة من الوقت. فمثلا يطلب من المريض إغلاق عينيه والتركيز انتقائياعلى قدمه، وعلى الأحاسيس فيها إلى أن يستطيع اكتساب الوعي الحسي الكامل. وبمجرد حدوث ذلك، فإنه يمكن أن يتحرك إلى سمانته وربما المعدة أو الجزء العلوي من الجسد أو الذراعين أو الرأس، أو أي عملية حسية معينة (مثل التنفس).
ولما كان أغلب مرضى الوساوس الحسية يميلون إلى الاعتقاد بأن عليهم تعمد تحويل الانتباه بعيدا عن هذه الأحاسيس غير العادية والتي يخشى الوعي بها، ويحاولون إعادتها إلى حالتها اللاوعية. فإن ممارسة تدريبات المسح الجسدي يمكن أن تساعد المريض على التحرك بسلاسة دخولا وخروجا من وعيهم بهذه الأحاسيس دون اللجوء إلى محاولات صرف الانتباه القهرية، حيث يتعلمون أن بإمكانهم التحرك بلطف من إحساس إلى آخر دون التعثر في فخ التركيز وإعادة التركيز، وفي غياب القلق، والخوف، وغياب أي محاولاتٍ لصرف الانتباه (Seay, 2011).
وأما حالة اليقظة الراضية أو الوعي الآني Mindfulness هي ممارسة "أن تكون على علم بما يحدث في اللحظة الراهنة في جسمك أو عقلك، تشعر به وبوجوده لكن دون رفض أو تقييم أو دفاع أو حتى إصدار حكم.. القبول (الرضا) فقط". إذن عندما تكون على وعي بما تفعل أو ما تشعر مباشرة به فأنت في حالة اليقظة الآنية".... وحين تعيش تلك الحالة راضيا عن كل ما تستقبل من مدركات فإنك تمر باليقظة الراضية وصولا إلى اليقظة المطمئنة، والتي تعرف بأنها فن إيلاء اهتمام وثيق للتجربة في غياب النقد، الحكم، أو الدفاع، فقط الرضا
يمكن لهذه الحالة أيضًا أن تلعب دورا هاما في التعرض لفك ارتباط القلق بالخبرة الحسية إن تدرب المريض على ممارستها. ومن المعروف أن الممارسات التأملية الشرقية في تدريبات اليقظة الراضية غالبا ما تنبني على اختيار بعض العمليات الجسدية لتكون محور الممارسة التأملية (مثل التنفس، وصعود وهبوط الصدر أو المعدة، أو الإحساس بمرور الهواء خلال الأنف)... لكن فقط بعد أن يحسن المريض التدرب على ممارسة المسح الجسدي يسمح له بجعل بؤرة تركيزه التأملي على نفس بؤرة انشغالهم الحسي بالإحساس الجسدي على أن يتم قبول جميع الأحاسيس دون نقد أو حكم، أو رفض فقط مراقبة الأحاسيس بفضول ورضا واهتمام. ومع مرور الوقت يبدأ المريض في الشعور بتلاشى فرط الوعي الحسي المعين لمشكلته (أو بقدر كبير من الرضا بالتعايش معه) مما يقلل من قلقه، أو يفك الارتباط بين الوعي الحسي والقلق (Seay, 2011) .
وباختصار فإن ما ورد أعلاه هو حاصل تفاعل ما وجدت على الإنترنت خاصة لسي (Seay, 2011) مع خبرتي وتساؤلاتي مع مرضاي وقد بدأت في تجريب ما قرأت وتحويره عن طريقة العلاج المعرفي السلوكي للوساوس الحسية الجسدية والخارجسدية ليناسب محتوى الوساوس عندنا منذ أكثر من عام وأثبت نجاحا مبدئيا ولكن ما تزال خبراتكم واقتراحاتكم جميعا مطلوبة خاصة في حالة وسواس حفظ الوضوء.
المراجع:
Wegner, D. M (1994): Ironic Process of mental control. Psychological Review 101 (1): 34–52
Seay, J.S (2011): Treatment for Body-Focused Obsessions & Compulsions in OCD (e.g., Swallowing, Breathing, Blinking). http://www.steveseay.com
واقرأ أيضاً:
العلاج المعرفي السلوكي لوسواس المرض مقدمة / ع.م.س لوسواس المرض فنيات العلاج2 / الوسواس القهرى وماوراء المعرفة/ التدين الوسواسي