إن أجسادنا المادية ليست إلا معاطف تلتحف بها أرواحنا من برودة هذه الحياة؛ وفي وقت ما، فإنها ستخلع ذلك الرداء لتواجه حرارة الحقيقة، ليست هذه كلمات فلسفية بقدر ما هي حقيقة علمية تلخص طبيعتنا؛ فذواتنا هي أرواحنا، أما أجسادنا المادية فهي بالية، وآيلة للزوال بطبيعتها، حتى أثناء حياتنا. لقد أثبت العلم أن الخلايا التي تتكون منها أجسادنا في حد ذاتها؛ تتغير كل سبع سنوات تقريباً، وجسدك الآن هو جسد آخر مختلف عن ذاك الذي كان موجوداً منذ بضع سنوات.
يقول أناتول فرانس1 "تظلّ الحقائق التي يكتشفها العقل عقيمة، ويظلّ القلب وحده قادراً على إخصاب الأحلام". ولذلك فإن رحلة التغيير والتطوير لذواتنا، هي في خلاصتها تطوير بالدرجة الأولى لذلك المكون الروحي فينا؛ تنعكس آثاره على تفكيرنا، وعلى سلوكنا، وعلى أجسامنا المادية. ومن هنا يولد بداخلنا مفهوم جديد للحياة وللسعادة، وللتطور والتقدم والرقي؛ بل ولمعنى كلمة الإنسان نفسها؛ ومن هنا يولد الإنسان الجديد بمنظومته الروحية والفكرية الجديدة.
فمنظومتنا الفكرية ككل، والتي ينصب معظم الحديث عن التغيير والتطوير في بوتقة التأثير عليها، وتنميتها، وتطويرها، وتوجيهها بالشكل المناسب؛ هذه المنظومة إن جاز التعبير تسبحُ بداخل ذلك المكون الروحي. ويشكل الفهم الخاطئ للحياة بداخلنا صراعاً قائماً بشكل ما بين متطلبات كلٍ من الروح والمادة؛ ولذلك فإنه لا مفر لنا خلال رحلتنا نحو السعادة والنجاح، لا مفر من السعي للعثور على مفاتيح الإدارة الإيجابية لذلك الصراع؛ والذي يظن البعض خطأً أنه لابد أن ينتهي بانتصار ساحق لأحدهما على الآخر؛ في حين أن الحقيقة تقضي بأن التوفيق بينهما، وإحداث التناغم والتوازن بين كلا المكونين هو ضرورة حتمية، يؤدي الفشل في تحقيقها إلى حياة متخبطة تعيسة وغير مُتزنة.
وفي ظل حضارة مادية بحتة تلقي بظلالها على كل ما يحيط بنا، في نفس الوقت الذي ازدهرت فيه المذاهب المتطرفة؛ صارت قدرة القطبين على الجذب أشد كثيراً مما عرفه الناس على مر التاريخ سابقاً؛ وصارت مهمة إحداث التوازن على ذلك المحور بطولة يستحق من ينجح فيها نياشين وأوسمة السعادة.
إن المكونات الروحية والمادية للإنسان أشبه بمجموعة من الآلات الموسيقية التي تعزف معاً مقطوعة الحياة؛ وكل آلة منها تحتاج طوال الوقت لأن تتم صيانتها، وإعادة ضبط إيقاعاتها، بحيث تظل دائماً تعزف في تناغم مع البقية. إن أي خلل في أي واحدة من هذه المكونات؛ يتسبب في عزف لحنٍ نشاز يفسد جمال المقطوعة، وقد يتسبب في تشويهها تماماً.
إن الكثير من المشاكل والضغوط التي يعيشها الفرد اليوم في القرن الحادي والعشرين مردها إلى التركيز على الجانب المادي وحده، وإهمال الجانب الروحي؛ حتى يصاب ذلك الكائن الروحي بالهزال والضعف؛ وتكون النتيجة الطبيعية لذلك ضعفٌ في أداء هذا الكائن لوظائفه المختلفة، وبدء حدوث ضمور تدريجي أو تشوهات للحواس الافتراضية2 المرتبطة به. يقول جان جاك روسو3 "التفكير النبيل يصبح صعباً عندما لا يفكر المرء إلا بالكسب المادي..."
في بعض الأحيان يكون العكس صحيحاً أيضاً، حين يركز البعض على الجانب الروحي فقط؛ مثل بعض4 المغالين من المتصوفين والرهبان، والفنانين والكتاب، ورجال الدين وغيرهم؛ حتى يصاب هذا الكائن بالتخمة، ويصبح عبئاً ثقيل الوزن ينوء المكون المادي بحمله؛ ومع الوقت يضعف ذلك المكون المادي حتى يصاب بالعجز أمام ثقل ذلك الوزن.
إن تلك الموازنة بين الروح والمادة، تشكل جانباً رئيسياً من جوانب متعددة نظّر لها ستيفن كوفي بالعادة السابعة5 من عاداته للناس الأكثر فعالية وهي "إعادة شحذ6 المنشار"، والتي تؤكد بصورة عامة على ضرورة الموازنة بين الإنتاج وبين القدرة على الإنتاج.
فالانشغال بالجانب المادي فقط يستهلك الجانب الروحي مع مرور الوقت؛ فإن لم يتم إعادة شحن البطارية الروحية من فترة لأخرى بالحصول على الراحة الكافية، والانشغال بعض الوقت بتنمية الجانب الروحي لدينا، فإن مستوى الطاقة فيها يظل ينقص باستمرار دون تعويض؛ مؤثراً على الكفاءة، والأداء، وكمية الحماس المتوفر؛ وبعد ذلك فإنه يأتي الوقت الذي تعلن تلك البطارية فيه عن نفادها، مضيئة كافة الأضواء الحمراء في حياتك من اكتئاب، وشعور بالضياع، ومشاكل نفسية واجتماعية، وتخبط فكري. وبالمقابل فإن الانشغال بالمكون الروحي فقط، يستهلك المكون المادي؛ تاركاً المرء يعاني من المشاكل الحياتية المختلفة، والناجمة عن الإهمال لصحته أو شؤون معايشه.
إن تلك الموازنة وعملية إعادة الشحذِ والصيانة المستمرة للجسد والروح، وأمور المعيشة المادية المختلفة، وأيضاً العلاقات الاجتماعية؛ هي التي تكفل الحفاظ على تناغم الروح مع المادة لدى الإنسان؛ ممكنة إياه من الاستمرار في كافة الأنشطة التي يتطلبها تطوير وتنمية منظومته الفكرية بداية، ثم إحداث التغيير في حياته وحياة من حوله لاحقاً.
وقبل كل ذلك؛ فإن هذا التناغم هو واحد من أسرار السعادة البشرية على مر العصور؛ فكلما كان العزف بين الطرفين أكثر تناغماً، كلما كان الإنسان أكثر قدرة على الاستمتاع باللحن الموسيقي للمقطوعة التي تعزفها مسيرة حياته.
وفي ذلك يقول علي ابن ابي طالب7 رضي الله عنه "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
قانون التوازن بين الروح والمادة: إن أي عملية تطوير للذات، يجب أن تكون قائمة على التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي في حياة الإنسان، ومتابعة صحة وانتظام عمل كليهما؛ وإلا كان مصيرها الفشل. وفي أحسن الأحوال؛ فإن الإخلال بذلك التوازن لا يمنحها الفرصة لتكون أكثر من مجرد عملية قصيرة الأمد، ومؤقتة التأثير.
إن تحقيق ذلك التوازن يكون أسهل حين نتمكن من رسم الصورة الصحيحة في أذهاننا عن عالمي الروح والمادة، وعن علاقتنا بهما. يمكننا تخيل هذه العلاقة بين عالمي الروح والمادة، من خلال صورة بسيطة يبرز فيها المكون المادي للإنسان كآلة تحتاج دوماً للصيانة، في حين يمثل الجانب الروحي البطارية أو مصدر الطاقة الذي يحرك الجانب المادي؛ وتحتاج تلك البطارية بدورها إلى عملية إعادة الشحن من وقت لآخر، تجنباً لنفاد الطاقة فيها.
وفي نفس الوقت فإن المنظومة الفكرية الخاصة بكل منا (والتي هي جزء أساسي من مكوننا الروحي) تمثل نظام التشغيل8 الذي يحتاج إلى صيانة وتحديث بشكل دوري، لكي يظل دائماً قادراً على مجاراة مستجدات الواقع.
_________________________________________________________________
(1) أناتول فرانس (1844- 1924)، روائي وناقد فرنسي، حصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1921 لمجموع أعماله.
(2) سنتعرض بمزيد من التفصيل لمفهوم الحواس الافتراضية لاحقاً
(3) جان جاك روسو (1712- 1778) كاتب وفيلسوف ولد في جنيف، يعد من أهم كتاب عصر العقل في التاريخ الأوروبي، والذي امتد من أواخر القرن 17 إلى أواخر القرن 18 الميلاديين. ساعدت فلسفة روسو في تشكيل الأحداث السياسية التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية؛ حيث أثرت أعماله في التعليم والأدب والسياسة.
(4) لابد من التأكيد على كلمة بعض (وليس كل)
(5) ستيفن كوفي - العادات السبعة للناس الأكثر فعالية
(6) من شحذ المنشار إذا أعاد سنّه لتعود إليه حدة أسنانه
(7) علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، صحابي جليل ورابع الخلفاء الراشدين، اشتهر بحكمته وأنه أول الأطفال إسلاماً، اغتيل سنة 40 هجرية.
(8) في عالم الكمبيوتر والاتصالات تستخدم عبارة (Operating System) أو نظام التشغيل لوصف البرنامج الرئيسي المسؤول عن إدارة كافة المكونات المادية والبرمجية الأخرى للجهاز، وهو بالضبط ما تقوم به منظومتنا الفكرية؛ ومن أشهر الأمثلة نظام الويندوز ونظام الأندرويد التي تجدها اليوم منتشرة على الحواسيب الشخصية PCs وأجهزة الاتصال المحمولة (Mobiles).
واقرأ أيضاً:
السر باختصار/ الإغلاق في العاشرة، بين المثالية والواقع/ التطبيع مع الفساد/ مفاتيح حل معضلة المرور/ الرحمة والبديل الثالث/ علامة تعجب