مرارا ما كنت أفاجأ وأنا في منتصف أو أواخر مراحل العلاج المعرفي السلوكي لمرضى الوسواس القهري ديني المحتوى بأن لدى مريضي أو مريضتي ما تزال هناك مشكلة حفظ الوضوء والرغبة في الوضوء لصلاتين وأن لمراقبة ذلك عليهم وقعا قويا حتى شبهت حالة بعضهم بأنك عندما تنهي الوضوء توصل تيار كهرباء (جسدي وخارجسدي) في طلب الحفاظ على الوضوء، وعادة ما يكون تأثير هكذا نوع من الوسواس صعبا على صاحبه أو صاحبته وشديد الوطأة... يضايقه في تحركاته في الحياة ويكبل تفاعلاته مع الناس ويرهق محاولاته للتركيز وصرف الانتباه والخوف من صرف الانتباه إلخ.... المحزن أن بؤس هؤلاء عادة ما يصل بهم إلى فعل قهري واحد هو تعمد نقض هذا الوضوء.... عجزا عن حمل عبئه بسبب الوسوسة، وبينما أسميته وسواس حفظ الوضوء نسبة إلى محتوى الفكرة التسلطية أو الوسواسية فإن بعض المرضى يسمونه وسواس نقض الوضوء نسبة إلى الفعل القهري المرتبط بهذا الوسواس، ولك عزيزي المتصفح أن تسميه كما تشاء.
كثيرون من مرضى الوسواس القهري ومرضى اضطرابات القلق عامة يشتكون من اضطراب ما عصابي المنشأ في القولون أو المعدة أو كليهما والدراسات في هذا الموضوع ما تزال قليلة دوليا ومحليا، فبالرغم من الوضوح في عيادات الطب النفسي لارتباط الاضطرابات النفسية المختلفة بالقولون العصبي والمعدة العصبية، ورغم وضوح سمات الاضطراب النفسي على مرضى القولون العصبي خاصة القلق في عيادات الأمراض الباطنية، وقد أثبتت عدة دراسات خطأ افتراض الأطباء الأولى بأن سبب زيادة معدل أعراض القلق في هؤلاء المرضى هي أن مرضى القلق والاكتئاب أكثر طلبا للطمأنة الطبية، رغم كل ذلك لم يقم إلا قليلون وحديثا جدا (Sung, et al., 2006) بدراسة متأنية للعلاقة بين القولون العصبي والاضطرابات النفسية المعينة سواء القلق أو الاكتئاب.... وربما يكون السبب في ذلك هو المنطقية التي تظهر من أول وهلة لعلاقة القلق المزمن باضطراب وظائف الجهاز الهضمي وغيره، وهناك من درس علاقة القولون العصبي باضطراب الهلع وهناك من درس علاقته باضطراب القلق المتعمم، إلا أن السؤال الذي لم يجبه أحد حتى الآن هو هل هي أكثر ارتباطا باضطراب قلق معين منها بغيره؟
إذن فهناك علاقة تفاعلية مهمة لابد من الإشارة إليها بين الوسواس القهري والأسباب العضوية في معظم المرضى بوسواس حفظ الوضوء، سواء في المثانة في الموسوسين بنقطة البول أو القولون في الموسوسين بخروج الريح، وحقيقة الأمر كما تتضح للغالبية العظمى من مرضى الوسواس القهري المسلمين –على الأقل- هي أن سبب المشكلة في المثانة أو القولون هو الوسواس أو القلق وليس العكس،..... والحقيقة التي لا ينكرها زملاؤنا الأطباء هي أن تشخيصات مثل متلازمة قولون عصبي Irritable Bowel Syndrome أو مثانة عصبية Irritable Bladder هي تشخيصات وحالات ما تزال في أغلب الأحوال لا تعرف أسبابها ولا تستقيم نظرية تشرح آليتها بطريقة تنطبق على أغلب الحالات... وإن أردنا الصدق فإن القلق بشكل عام أو الوسواس القهري المتمثل في فكرة فقدان السيطرة على السبيلين بشكل خاص هو أحد أهم أسباب الاعتلال النفسية في القولون أو المثانة.....، وقد أثبتت دراسات حديثة تميز مرضى متلازمة القولون العصبي بفرط الانتباه الانتقائي للأحاسيس الحشوية في الجهاز الهضمي بصورة مرضية (Keough, et al., 2011).
ولما كانت مبطلات الوضوء يمكن أن تحدث بعده وليس فقط أثناءه فإننا لذلك نجد وسواسا خاصا بالوضوء هو وسواس الحفاظ على الوضوء! أو وسواس حفظ الوضوء وهو أحد أشق أشكال وساوس مبطلات العبادة، ولعل الأقرب له هي الوسوسة بإبطال الصيام أو وسواس الحفاظ على الصوم! ففي كليهما نجد شعورا متضخما بالمسئولية وضرورة الانضباط لفترة قد تكون طويلة، إضافة إلى الانشغال بالأحاسيس الجسدية الحشوية في السبيلين بل فرط الحساسية لها -في حالة وسواس حفظ الوضوء- فضلا عن القلق والتوتر العام الذي يزيد من إفراز البول بالطبيعة، كما يزيد من توتر الأمعاء وربما يزيد من انتفاخ القولون أيضًا أي أن ردة الفعل الجسدية عادة ما تزيد الأمور سوءا.... وأحيانا تكون العاقبة المخشية هي الاضطرار إلى الوضوء في مكان أو ظروف غير مناسبة وأحيانا تكون عدم الانتباه إلى انتقاض الوضوء أو نجاسة الثياب ثم لمس المصحف الشريف أو الصلاة...إلخ.
ورغم أن أول ما يخطر للذهن عند التفكير في سبب وسواس حفظ الوضوء هو صعوبة أو مشقة الوضوء بسبب الوسوسة فيه، إلا أن ذلك ليس كل شيء بل هو أحيانا ليس ذي علاقة بالأمر، وأن التفاتنا إلى هذا الشكل من الوسواس لم يحدث أصلا إلا بعد علاج المرضى من وساوس الوضوء والصلاة وغيرها، والأهم من ذلك هو أنه وإن بقي شيء من الأهمية لصعوبة الوضوء فإن أغلب الحالات يصرون على أن وسواس حفظ الوضوء يستمر حتى مع عدم الحاجة للحفاظ على الوضوء، تقول إحدى المووسات: "يعني بعد أداء صلاة الفجر مثلا، مجرد فكرة أني متوضئة تكون فكرة ضاغطة حلها هو التخلص من هذا الوضوء"، وكأن الحفاظ على الوضوء هدف في حد ذاته مثل الطهارة.
وفي محاولة لاستبار الخلفية المعرفية الشعورية لدى مرضى وسواس حفظ الوضوء.. اعتدت سؤالهم: ما هي بالضبط الأحاسيس الجسدية المصاحبة لوسواس حفظ الوضوء؟ هل هي ترقب للقولون أو المثانة أو كليهما؟ مم يتكون المحتوى المعرفي الشعوري المزعج الذي كثيرا ما يدفعك إلى نقض الوضوء عمدا للخلاص من الوسواس؟ وأضع هنا عدة نماذج من الإجابات تلخص الردود والمخاوف الشائعة:
1- "يكون الشعور الجسدي المصاحب هو مدافعة خروج ريح أو فقدان التحكم في البول، ولا يكون ذلك بمتابعة المثانة أو القولون بل يكون التركيز على مخارج الريح أو البول.. لذلك وهروبا من هذه المقاومة (أو المدافعة) يكون الحل هو نقض الوضوء إراديا حيث تستمر هذه المشاعر مهما حاولنا تجاهلها.. ويمكنني تشبيهها بمشاعر المريض الذي يعلم أنه قد تم تركيب قسطرة للبول له لكنه مع ذلك لا يستطيع تجاهل شعوره وكأنه سيفقد تحكمه في البول."
2- "يكون الشعور الجسدي المصاحب هو كوجود شيء لم يخرج مثلا جزء من ريح خرج قبل الوضوء ولم يكتمل خروجه أو نقطة بول لم تخرج من المبال...إلخ.... ويمكن أن تخرج في أي قت مثلا عند الحركة القوية أو وضع الركوع أو السجود أثناء الصلاة... إلخ. ويتم ذلك بمتابعة المثانة أو القولون وبالتركيز على مخارج الريح أو البول، والحذر من الحركات السريعة أو القوية... وهو ما يجعل من المستحيل حفظ الوضوء لصلاتين، بل إن النجاح في حفظه حتى إتمام الفرض إنجاز،..... والمعتاد هو أن أتخلص من ضيقي بعبء حفظ الوضوء بأن أتعمد نقضه كل مرة حتى أستطيع ممارسة حياتي".
3- "الشعور هو وجود الغازات الدائمة، وحاولت مراراً معالجة المشكلة بزيارات للطبيب دون جدوى، لجأت إلى الأخذ بالرخصة في حالة انفلات الريح. لكن المشكلة في بداية الوضوء، إذ إنني أشك في أمرين؛ إرادتي في خروج ما خرج، أم عدم إرادتي، حيث أعتبر إرادتي في خروجه خارج موضوع العذر، وهكذا أبقى في حالة ترقب لنيتي المرافقة لما أشعر بخروجه، وأظل أقول الآن سأبدأ الوضوء بدون عزم على خروج ما خرج، وأعود وأقول لا لقد خرج هذا برغبتي، وأعاود المحاولة منفقاً في هذه الحلقة الأوقات الطويلة، تصل أحياناً لساعات".
4- "أحياناً أنهي الوضوء، وعندما أقوم بالتحرك قد ينتابني ألم من قدمي أو ظهري مما ينتاب أي أحد أثناء تحركه اليومي عندها تنقطع مراقبتي لوضوئي وأشعر بخروج شيء، فأقول هذا الألم والخروج بسببه خارج العذر، ولكني أعود وأقول هذا ضمن العذر، وغالباً ما أنجح في هذا ولله الحمد. وألاحظ أني بمجرد أن أهم بالوضوء أشعر بضغط كبير في بطني وانشداد في أعصابي يساهم في خروج المزيد من الغازات. أعتقد أن الحل هو أن أبدأ الوضوء ولا أعود أسأل نفسي، ولكني أنجح بهذا نادراً، وربما عدم قدرتي على هذا هو الجزء الرئيسي في هذه الوسوسة".
5- "توجد حركة بالداخل عندي، وهي تزيد عند الصلاة، بالذات عندما أرفع قدمي على المغسلة للوضوء، أو عند السجود، أشعر بأن حركات كهذه تساعد في إخراج الغازات، ولست متأكدة دائما إن كانت هذه الغازات تخرج فعليا أم أنها تبقى بالداخل. عندما أذهب للحمام، لا أظن أن كل شيء يخرج، لهذا غالبا ما أشعر بتراكم أشياء داخلي، عدا عن الغازات.... المهم.. كل هذا جعل من وضوئي وصلاتي عبئا ثقيلا، فأحيانا أتنفس الصعداء لانتهائي من الوضوء، وما إن أصل إلى مكان الصلاة أفقده، وأحيانا أفقده بمجرد انتهائي من ارتداء ملابس الصلاة، أو أثناء الصلاة، والأسوأ عندما أفقده وأنا على وشك التسليم من الصلاة. قد يحدث هذا في نفس الصلاة الواحدة".
ويبدو النموذج الأخير أشد وطأة وأكثر حدة من سابقيه ربما لتعلقه بمرحلة مبكرة أي أثناء الوضوء وأثناء الصلاة وإن بقيت مدافعة الريح أو نزول نقطة هي محور الوسوسة القهرية، إلا أن النماذج الأولى تعبر عن حالة تحدث عند الرغبة في حفظ الوضوء لأكثر من صلاة أي حفظ الوضوء على مدى طويل في حين يعبر النموذج الأخير عن حالة حادة من مدافعة لما ينقض الوضوء لا تكاد تمكن المريض من إكمال الوضوء نفسه أو الصلاة المباشرة بعده أي حفظ الوضوء على المدى القصير، وربما نجد هذا النموذج الأخير أي الأكثر شدة وحدة، أكثر ارتباطا بما سميناه الظواهر الحسية الجسدية SomatoSensory Phenomena في مرضى الوسواس القهري وهي نوع من الهلاوس الحسية تصيب الموسوسين وتصبح بمثابة الوسواس الذي يدفعهم للفعل القهري وهو غالبا إعادة الاستنجاء أو الوضوء والصلاة أو ذلك كله... لكننا نستطيع تخيل متصل ما بين الوساوس في ناحية والهلاوس في الناحية المعاكسة، بحيث تسهم الخبرات الحسية غير الحقيقية في تثبيت قناعة المريض بخروج ريح أو نزول نقطة... وفي كل الأحوال يجب ألا ننسى أن التركيز في علاج الوساوس الحسية الجسدية (Seay, 2011) أيا كانت شدتها يجب أن يكون على التعرض لفرط الوعي الحسي والتدرب على معايشته.
وفي أثناء العلاج نجد بعضا من المرضى الموسوسين يستفيد من شرح التيسيرات الفقهية الخاصة بكل نقطة ويجدون حلا للمشكلة في ذلك، بينما يحتاج كثيرون إلى النجاح أولا في فك الارتباط الشرطي بين ذلك الإحساس الجسدي والقلق لديهم وهو ما يحتاج إلى تدريبات التعرض ومنع الاستجابة والتي تتمثل في استدعاء الإحساس الحشوي المعين مرات ومرات بدلا من تحاشيه أو محاولة صرف الانتباه عنه (أو الخوف من صرف الانتباه عنه) أي استدعاء الشعور نفسه بأن شيئا يتحرك أو هو على وشك الخروج من أي السبيلين ريحا أو نقطة أو أن وضوءه على وشك الانتقاض... لكن يشترط في نفس الوقت أن يكون الاستدعاء على خلفية شعورية معرفية محايدة لا تقيمية ولا تتطلب فعل شيء من جانب المستدعي اللهم إلا الوعي بأنها موجودة دون قلق أو خوف.
وبالتالي ينخرط المريض في تدريبات التعرض حتى يتقنها ويستطيع ممارستها مطمئنا، وربما يتم تعزيز التعرض في مرحلة لاحقة بتخيل حدوث المخشي منه بالفعل كنزول القطرات أو خروج الريح إلخ.... وهناك من المرضى من يبدأ التدريبات متوضئا لكن أغلبهم يفضلون التدرب أولا وهم غير متوضئين أو في أوقات الطمث في النساء، ويستمر ذلك التعرض المستتر (أي دون وضوء) من أسبوعين إلى 4 أسابيع حتى يجد المريض نفسه قادرا على استدعاء واستشعار ذلك الإحساس دون أي انفعال، وعندها يتم الانتقال إلى تدريبات التعرض أثناء الوضوء.
المراجع:
Sung HH, Oh YL, Sang CB, et al. (2006) Prevalence of Irritable Bowel Syndrome in Korea: Population-based survey using the Rome II criteria. J Gastroenterol Hepatol; 21: 1687–92.
Keough ME, Timpano KR, Zawilinski LL, Schmidt NB. (2011)The association between irritable bowel syndrome and the anxiety vulnerability factors: body vigilance and discomfort intolerance. J Health Psychol. 8:91–98
Seay, J.S (2011): Treatment for Body-Focused Obsessions & Compulsions in OCD (e.g., Swallowing, Breathing, Blinking). http://www.steveseay.com