غالبا ما أقف مذهولا أمام مدرس التاريخ. هذه الحصة تثير فيّ القلق، وأكثر ما أكرهه فيها هو الحديث عما كان يجري في غابر الأزمان، لأنني أعده فاصلا بين الخيال والواقع، وكل الأساطير التي يظنها مدرس التاريخ حقائق لا تقبل نقيضا لها، تجعلني أغزل منها الآلاف من علامات الاستفهام.
نحن نذم علنا، وسرا تلك الولايات، غير أن كل ما في أسواقنا مستورد منها، معظم نسائنا يحلمن بالعبور نحوها، وتمنعهن أمومتهن عن اجتياز الحدود المتوجة بقبة عاطفة الأمومة لحماية الولايات من أي هجوم نووي نحوها. والنووي هذا جعلني أظن أن كل ما يقال عن حياة من سبقونا هو ضرب من الخيال.
صحيح أن المدرسة نظمت عدة رحلات نحو متاحف الأسلحة القديمة، وزيارات للمعارض الفوتوغرافية التي تصف بربرية القرن الحادي والعشرين، وما سبقه من قرون، غير أني عجزت تماما عن رسم صورة كاملة لأجدادنا القتلة، هم في بعض الأحيان يشبهوننا، وفي أحيان كثيرة لا يختلفون عن الحيوانات المفترسة في غابة لم تعبث بها يد إنسان، كما أن الجثث المحنطة لضحايا الكتابة المسمارية قد أتلفت، ولم يعد لها من وجود سوى ما يحيطها من أسرار وكتمان، وتسريبات تثير القشعريرة والخوف في جسد أي رجل.
جدتي هي أكثر النساء تحمسا للحديث عن مدينة نهداد، رغم ذاكرتها المعطوبة. سمعتها في طفولتي وهي تروي الحكايات عن واد جميل، كان يوما ما ساحة حرب لم تنته إلا بظهور غريب لعصابات نسوية بدت شديدة القسوة مع خصومها الرجال، استولت على مساحات شاسعة من الأراضي الجرداء بعد حرب ذكورية دامت قرنا من الزمان، أنهته تلك النسوة بتعليق الرجال من أعضائهم التناسلية في الشوارع والساحات، وظن العالم أن هاته التجمعات المجنونة ستتحول إلى قبائل من آكلات لحوم البشر مع كمية سلاح تكفي لمسح كل أثر للحياة خارج البقع التي وضعن أيديهن عليها، وبلغ الخوف من وحشية مصير من يقرب منهن حدا لا يجرؤ على اجتيازه أي رجل، فهن لا يقتلن الرجال كما كن يفعلن في بداية ثورتهن، بل يقطعن الأعضاء الذكرية، ويعدن إرسال الضحايا من حيث أتوا، وبين أفخاذهم بقعة ملساء حفرت عليها بالمسامير رسائل مرعبة، ثم انقطعت أخبار تلك العصابات، ولم تتوفر الشجاعة لدى أي رجل لدخول دولة البتر والكتابة المسمارية على مواضع فحولتهم.
غير أن النسوة في مختلف أنحاء العالم لم ينقطعن عن زيارة بلد عصابات لا تعاملهن إلا بود، وتكرمهن أيما إكرام لقاء نشر دعوتهن لانضمام المزيد من النساء إليهن دون شرط سوى عدم اصطحاب ذكور. ومر زمن كان الرجال فيه يلقون بقنابلهم النووية فوق ذاك الوادي المرعب دون أن يسمعوا دوي انفجار، إنما يعقب ذلك جفاف كل عضو تناسلي ذكري مع خصيتيه، وتحوله إلى ما يشبه قطع من خشب آيل للسقوط.
وسنة فأخرى لم يعد الرجال يفكرون سوى بحماية أنفسهم من الانقراض، يتنازلون عن كل شيء للولايات في صفقات غير عادلة لقاء أن تظل أعضاؤهم حيث هي، تعمل دون عطب مفاجيء. ويعد الأسلاف تحطيم مصانع السلاح، وإتلاف كل أداة قتل أكبر هزيمة للولايات المختلطة أمام الولايات الأنثوية المتحدة. وبعد زمن صمت ينذر بخطر مباغت، تتالت أخبار الاختراعات، والاكتشافات التي تبث من خلال محطات أنثوية عالمية، لتجعل من البقاع التي سيطرت عليها تلك النسوة محصنة تحصينا كاملا ضد أي سلاح صنعه الرجل يوما ما.
تتذكر جدتي أن مواسم حصد البنات الرضع كان عيدا وطنيا لتلك الولايات الخالية من الذكور تماما وفق ما سمعته من والدتها يوما، تقطف فيه البنات الصغار من أشجار تشبه رحم المرأة، ثم توضع في أحضان الأمهات اللواتي يرضعنهن طوعا من خلال حلمات دافئة تسحب حليها من خزان المدينة الكبير.
لم تتسع تلك الرقعة الغريبة المحتشدة بأسرارها إلا سلميا، كانت النساء تتجه من كل أنحاء العالم صوب ذاك البلد الساحر، وهن يضمن ما بحوزتهن من أراض لوطن خاص بالأنوثة وحدها بعد طرد الذكور منها. وجدتي تضحك حين تذكر أن موضعا معروفا يطلقون عليه اسم (العلاوي) في العاصمة (نهداد) أصبح محل انطلاق الباصات الفضائية التي ترحل حسب جداول زمنية نحو جنات النعيم في زحل والزهرة والمريخ وكواكب أخرى في مجرات لا يعرف عنها شيئا أي فرد من البلدان المختلطة الجنسين، أي التي ما زالت تقر بحق الذكور في التواجد مع النساء.
ويقال أن هنالك متحفا يسمونه متحف العهد الذكوري، فيه الكثير من الرجال المحنطين، تحدثت عنه امرأة مسنة قبل وفاتها أمام حشد متظاهرات يطالبن بحقوق كالتي يسمع عنها في الولايات الأنثوية، وقد أعربت عن أسفها إذ لم يسعها الالتحاق بعصابات النسوة المتمردات على حروب حصدت الملايين بسبب أولادها الذكور الذين لم تستطع تركهم صغارا.
وقد تضمن خطابها توضيح لما حدث حين قرر رجل انتحاري اجتياز الحدود الفاصلة بين الولايات المختلطة والولايات الأنثوية المتحدة، قالت أنه دخل دونما صعوبة، وكأن الحدود قد فرشت له زهورا، ربما لاصطياده، وجعله عبرة لغيره، وأنه قد تزحلق من الحدود حتى قلب العاصمة نهداد دون أن يدري كيف، كان كل شيء متموجا وزلقا، والشوارع أشبه ببطون الكواعب الملساء، أما البيوت فنهود منتصبة بأبواب تشبه الحلمات، والسيارات نهود أخرى تنزلق كأنها جحافل من حيامن تناضل لبلوغ بويضة أنثى.
لم يكن هنالك من دخان، ولا غبار، والأريج يفوح في المكان حتى يخال المرء أنه في قلب زهرة، وليس في مدينة، الألوان أصابت عينيه بغشاوة، وخدر لذيذ سيطر عليه وهو يسير تائها بخطاه بين أجساد لم تسترها قطعة قماش. علام القماش والأزياء والأحذية؟؟؟، هكذا تساءلت المرأة العجوز، نحن نلبسها هنا أما بسبب مفردتي العيب والحرام ضمن القاموس الذكوري سيء الصيت، أو لنثير الرجال بإظهار بعض الجسد كي يصاب بالجنون ليرى ما خفي منه.
طاف الانتحاري كشبح، لا امرأة تلتفت إليه، فجميعهن ينزلقن كأجنة في بطون لا تعرف ألم ولادة، يسبحن دون نقل الأقدام في بحر زلق السواحل، لا يشعر من يبلغه إلا وكأنه الطير محلقا في سمائه. معظم الروايات تتفق على أنه قد مات بالسكتة الانتصابية، فقد عانى من انتصاب لا يتوقف منذ أول خطوة له نحو الحدود وحتى الملعب المسمى بلحظة الإبداع. والملعب هذا فيه سر تفوق الحضارة الأنثوية على المختلطة، فهنالك ينهمر الحب كمطر ربيع يخضل الأجساد الطرية المشدودة، والنهود المنتصبة التي لم تتجشم عناء الإرضاع، والبطون المستوية التي تجهل الحمل والترهل.
كل امرأة مع آلاف من خليلاتها يعشن زمن النشوة الجماعي، كل الشفاه الناعمة تقبل غيرها، وكل الأنامل الرقيقة تداعب ما تعثر عليه حولها من عطايا الأجساد العارية، وتتحد الآف من التنهدات كموسيقى عارمة يهتز لها الفضاء، وتجعل من السيول المتدفقة لذة محيطا زبده خمر دنان كواعب لم يعرفن المشيب، يقطعنه عوما نحو قمم الطاقة الذهنية.
وند تلك القمم تصنع المعجزات، وتشع من العقول شموسا لا عهد لنا بها، تغير من كيميائية الخلايا العصبية، وتدفعها إلى العمل بأقصى قدراتها، ليغدو أينشتاين بعبقريته مجرد غبي أحمق في المختبرات التي تمتليء بالنسوة المبتهجات بعد انقضاء لحظة الإبداع.
تنبلج الحياة من بين ذراعي كل أنثى، وتلج الأقدام الحافية المترفة المجرات من ممراتها المفتوحة دونما حصون، تلد شبكيات العيون أقواس قوس قزح تتردد في رحابها صدى ملايين من الضحكات الأنثوية الشبيهة بالسيمفونيات، وتبنى المدن في رمشة عين، وتزرع الآلآف من الزهور، وتحبو الملايين من الرضيعات على أرض من حرير، لا يشكو أحد فقرا ولا جورا، لا تعرف الكراهية، ولا الحقد.
المدارس سفوح جنات تمنح لطالباتها القدرة على التواصل مع كائنات أخرى عبر الفضاء، والتلميذة لا تحصل على شهادة نجاح إن لم تقدم لمجتمعها الأنثوي اختراعا جديدا يضيف سببا جديدا للسعادة.
الرجل الانتحاري ظل ينزلق بين ملاعب، ومسابح، وورشات عمل أشبه بقصور من ماس وذهب، وهو يكابد انتصابه حتى توقف قلبه مرهقا، وتم تحنيطه وعرضه في المتحف.
أستاذ التاريخ يصف لنا بشاعة الأجداد، وحروبهم، وكيف تم تحطيم كل معامل السلاح بعد ثورات لم تتوقف من قبل الأمهات، وكيف أصبح الرجل يسير برقة فراشة تحط على زهرة ربيع، ويتكلم بصوت أشبه بالكمان وهو يحاول أن يرضي زوجته بعد أن قررت المغادرة صوب نهداد.
قال أننا مررنا بفترة خشينا فيها من الانقراض، ولا زلنا نخشى ذلك، فالنساء في نهداد يقطفن البنات من أشجار المحبة، لسن بحاجة لنا، والنساء هنا يرغبن في الهروب نحوهن، أصبح كل مائة رجل يخطبون ود واحدة فحسب، جميلة كانت أم قبيحة، فقط كي لا يظل أحدهم وحيدا، وإن أغضبها غادرته دون أسف صوب من هو أفضل منه ليقضي بقية عمره متحسرا على ذكريات حضن امرأة.
قال أيضا أن المثليين حوربوا بشدة، فهم يقللون من قدراتنا على إنجاب المزيد من الرجال، وقد قتل كل من أبدى ميولا شاذة قتلة شنيعة. زرت المتاحف مرارا لأفهم دوافع الحروب، والقتل التي جعلت من أجدادنا عبيدا للموت، ولم أستطع تخيل ذاك العالم الأحمق، ولولا خوفي من السكتة الانتصابية لزرت تلك الولايات وأعلنت ولائي المطلق لها.
في المدرسة لقحوني بلقاح مضاد للاغتصاب، رغم أني لم أفهم كيف يطلب الرجل من المرأة شيئا دون رضاها. كل ما كان، يبدو لي في منتهى الوحشية، قد تغير عالمنا وأصبح أشد هدوءا مقارنة بتاريخ الدم، والاغتصاب، والفقر، والمعاناة، رغم ذلك ما زالت الولايات الأنثوية تمنع دخول الذكور. إنهن ببساطة لا يشعرن بحاجة لتواجدهم، بل يرين في شعر أجسادهم ما يخز الشوارع المورقة بنعومة، وفي شواربهم ما ينتأ بقبحه في حدائق تزهو بالجمال المنبسط أمام الأعين.
تمنيت لو أنني أصبح بنتا لمدة يوم واحد يسمح لي فيه أن أعيش في تلك الدنيا التي لا تعرف ليلها من نهارها، فالشموس الصناعية بلا عدد، والنهود التي أتمنى النوم في ظلالها هي بيوت وأشجار.
قبلت أمي صباحا وأنا أقول لها:
أنني أعلم حجم تضحيتك إذ لا تلتقحين بالنسوة هناك، لا عجب أنهن غيرن مسار البشرية من الحماقة نحو التواصل مع سكان مجرات لم نرهم يوما، وقد صنعن جنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرت على قلب بشر. هن كما أنت، لا تعرفين سوى أن تمنحيني كل ما بحوزتك من حياة.
واقرأ أيضاً:
ابحثْ لك عن نهاية أخرى.. / يوم تمردت / عقب ليلة مع أمير داعش / زهراء / تهمة احتياز دعارة / أنونيماس / قصص قصيرة جدا