كتبت في كتابي الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي (أبو هندي، 2003)، تحت عنوان "تأثير الوسوسة الوالدية على الأطفال" يعتبرُ هذا المبحثُ من المباحثِ التي لم تلقَ ما تستحقُّ من الاهتمام حتى الآن، ولعل السرَّ في ذلك يرجعُ إلى أن طب نفس الأطفال ما يزالُ في مرحلة متأخرةٍ عن تلك التي وصل إليها الطب النفسي العام كما أن ما نتكلم عنه في هذا المبحث إنما ينتمي إلى ما يشبهُ الطب النفسي الوقائي وهذا العلم أيضًا ما يزالُ في بداياته على مستوى العالم؛ ولا أدري هل سؤالٌ مثل سؤال ما هوَ تأثيرُ الوسوسة الوالدية على الأطفال؟ هوَ سؤالٌ لا يخطرُ على بال أحدٍ من الباحثين في الطب النفسي أم أن هناكَ أسبابٌ تتعلقُ بصعوبة إخضاع أطفالِ الأسرةِ التي يكونُ أحد الوالدين فيها موسوسًا للدراسة من جانب الباحثِ النفسي؟، يبدو أن هذا هوَ السبب وإن كانَ هذا الافتراضُ قد يصحُّ في بلادنا التي ما يزالُ الناسُ فيها يزورونَ الطبيبَ النفسي في الخفاء ولكن من الصعبِ أن يصحَّ في غير بلادنا، ورغم ذلك فإن الحقيقةَ أنني لم أجد رغم بحثي في كل محركات البحث المتاحة على الإنترنت أي بحثٍ في هذا الموضوع"... على عكس ما كنا قد أشرنا إليه آنذاك فإن كثيرا من الباحثين اهتموا بالأمر في السنوات الأخيرة، ونقدم في هذا المقال ما ييسر توفير نظرة عامة أساسية بالنسبة للأطباء والمعالجين النفسانيين تمكنهم من النظر في تأثير استجابات أفراد الأسرة على حالات الوسواس القهري وكذلك تأثير الاضطراب على أداء الأسرة.
درس الباحثون خواصا ديناميكية نفس/أسرية عديدة لمعرفة تأثيرها على المسار والمآل المرضي للعديد من الاضطرابات النفسية ومن أشهر تلك الخواص ما يسمى بنوعية المشاعر أو الانفعالات المظهرة أو المفعلة أو نوعية العواطف أو الانفعالات التعبيرية Expressed Emotions للأسرة، وفي اضطراب الوسواس القهري بينت دراسة أجراها شامليس وستيكاتي أن الاستجابات الأسرية التي تشمل الانتقادات العدائية Hostile Criticism أو المباشرة للمريض أو على العكس تلك التي تشمل فرط الاكتناف العاطفي أو الانفعالي Emotional Overinvolvement بمشكلته المرضية أو التعاطف المفرط معه بما يدفع إلى التضحية بالذات أو الإفراط في إعفاء المريض من المسؤولية كل هذه المشاعر المظهرة تصاحبها مسارات مرضية مزمنة واستجابات أسوأ لمحاولات العلاج (Chambless & Stekette، 1999)، أي أن الانتقاد المباشر للمريض ولومه على ما يفعل مثله مثل التعاطف المفرط معه (وهذان كما يلاحظ سريريا هما الاستجاباتان الأكثر شيوعا بامتياز) يرتبطان بمسار مرضي أكثر اضطرابا واستجابة للعلاج أقل إشراقا.
وحين يكون المريض طفلا أو مراهقا تصبح مشكلة المشاعر المظهرة أكثر أهمية بشكل خاص حيث أن احتمال أن يكون أحد الوالدين مصابا بالوسواس القهري كبير يصل إلى 17% (Waters & Barrett، 2000) من المرضى أو على الأقل باضطراب قلق آخر أو اكتئاب (Nestadt، G.، et al.، 2001) ومعنى هذا أن ديناميكيات نفسية أسرية عديدة يمكن أن يتم تفعيلها بدءًا من انتكاس الأب المتماسك نوعا أو جزئيا أو حتى المتعافي مرورا بانفعال الإنكار والتحاشي ووصولا إلى حتى معاقبة الطفل على مرضه، فضلا عن احتمال حصول انتكاسة للآباء أو الأمهات من مرضى الاكتئاب.
وكان من الملاحظ حتى عهد قريب في البيئة العربية على الأقل أن عجز الطب النفسي عن علاج الوسواس القهري وتأخره في ذلك لعقود مقارنة مثلا بالاكتئاب ما يزال يظهر انعكاسه السلبي على المرضى من الأطفال والمراهقين اليوم، فحين يكون الطفل أو المراهق الذي تظهر عليه أعراض وعلامات الوسواس القهري ابنا لمريض وسواس قهري سابق فإن مقاومته لعرض الطفل أو المراهق على طبيب نفساني تكون شديدة ربما لسوء خبرته شخصيا مع الطب النفسي، وإن كان هذا بفضل الله تغير في الآونة الأخيرة بسبب قدرة المواد الفيلمية والإعلامية على التسلل داخل كل بيت بما يساعد في التعريف بتغير ذلك الوضع.
وأما ثاني الخواص الديناميكية النفس أسرية التي من المهم التعامل معها لعلاج حالات الوسواس القهري فهي الانتقادات المدرَكة Perceived Criticism ويقصد به تقييم المريض الشخصي لما يدركه من انتقاد الآخرين في الأسرة له ولتصرفاته، وبعض المرضى قد يكون أكثر حساسية لتصور التعرض لانتقادات معينة من غيرها، ولذلك فإن التقييم الشخصي قد يكون أكثر إيضاحا من التقييم الموضوعي. وهذا بعد مهم خاصة بالنسبة للأطفال أو المراهقين الذين قد تختلف مستويات الحساسية لديهم إذ تتغير وفقا لمرحلة النمو، وربما ما يزال التحدي قائما حين يطلب من الأطفال الصغار امتلاك القدرة على التفكير الذاتي وإعطاء قيمة عددية لهذا الشعور بالانتقاد، إلا أن عدم الاهتمام بهذا البعد قد يعيق علاج الحالة خاصة في المراهقين.
لكنني أمتلكُ الكثيرَ من الملاحظات التي حفرتْ في ذاكرتي أثناءَ عملي مع عائلات مرضاي من الموسوسين، فإذا أردنا أن نستوضحَ هذا الموضوعَ فإن من المهم أولاً أن نفرقَ بينَ حالاتٍ ثلاث :
الحالةُ الأولى: هيَ كونُ الطفل أو الطفلة موضوعًا للوسوسة من قبل الأم أو الأب المصاب بالوسواس القهري.
وأما الحالةُ الثانيةُ: فهيَ كونُ وسوسة الأب أو الأم متعلقةً بموضوعٍ آخرَ يلاحظهُ الطفلُ ويعتبرهُ سلوكًا غريبًا من أبيه أو أمه المفترضُ فيهما أنهما القدوةُ؛ وذلك أيضًا عندَ الإصابة باضطراب الوسواس القهري.
وأما الحالةُ الثالثةُ: فهيَ حالةُ أطفال الأب أو الأم صاحبة اضطراب الشخصية القسرية، فهذه الحالةُ وإن كانتْ شدةُ الأعراض فيها أقلَّ إلا أنها مزمنةٌ وأقلُّ احتمالاً للعرض على الطبيب النفسي.
ثمَّ هل افتراضُ أن الوالدَ الموسوسَ ينتجُ أطفالاً موسوسين أو الوالدةَ الموسوسةَ تنتج أطفالاً موسوسين هو افتراضٌ صحيح؟ وكيفَ يمكنُ إن وجدَ طفلٌ موسوسٌ لوالد موسوسٍ أو والدةٍ موسوسةٍ أن نقولَ أن التأثير كانَ لطريقة التربية وليس للمادةِ الوراثية التي انتقلت إلى ذلك الطفل؟ بمعنى آخرَ كيفَ سيمكنُ الفصل بينَ ما هوَ وراثةٌ وما هو نتيجةُ البيئةِ الأسرية؟ خاصةً وأن دراسات التبني التي يربي فيها والدٌ موسوسٌ أطفالَ والدٍ غير موسوسٍ أو العكس غير ممكنةِ التطبيقِ حتى في الغرب لأسبابٍ أخلاقية، وما يعنينا بالطبع في هذا الفصل هوَ ما يمكنُ أن تسببهُ البيئةُ الأسريةُ في وجود الوسوسة الوالدية على الطفل، فماذا يكونُ تأثيرُ والدٍ أو والدةٍ يتوقعان من طفلهما أن يتحكم في كل شيءٍ ربما قبل الأوان وربما بشكلٍ يفوقُ طاقةَ البشر، وماذا يمكنُ أن نتوقعَ من تأثيرٍ على طفلٍ يطلبُ منهُ أحد والديهِ أن يقومَ بغسلِ الخبزِ قبلَ أن يأكلهُ أو المفاتيح كلما عاد من خارج البيت وهكذا؟
كل طفلٍ يحتاجُ إلى مدْحِ والديه أو إلى رضاهم أو على الأقل إلى عدمِ انتقادهم لهُ فماذا تكونُ الطريقةُ لإرضاء أبٍ موسوسٍ أو أم موسوسةٍ؟ لابدَّ أنها الالتزامُ بما تمليهُ الوسوسةُ الوالديةُ على الطفل بما في ذلك من إنكارٍ لمشاعره ورغباته واندفاعاته الطبيعية العاديةِ، وهوَ يقعُ في صراعٍ بينَ أن يتصرفَ حتى وهوَ خارجَ البيت بشكلٍ طبيعي كما يفعلُ أقرانهُ وبينَ أن يلتزمَ بما وعد به أباهُ أو أمهُ، فماذا يكونُ بعد ذلك موقف الوالد الموسوس؟ إنه فقط سوفَ يطلبُ من الطفل أداءً أفضلَ في المرة القادمة لأنَّ الوالد الموسوس أن أعجبهُ سلوك ابنه أو ابنته في أي منحىً من مناحي الحياة وهذا ما يندرُ حدوثهُ أصلاً، وإن حدثَ فغالبًا ما يخافُ من أن يكونَ سببًا في تدليل الطفل وهكذا بينما ينتظرُ الطفل مكافأةً كبيرةً يطلبُ الوالدُ الموسوس من الطفل أداءً أفضل في المرة القادمة والتزامًا أدقَّ بقواعد الأداء الصحيحة.
إن من الصعوبة بمكان أن تعيشَ مع أب أو أم يخافُ من إظهار المشاعر بوجهٍ عام، ولا يفرح بالمفاجأة لأنهُ يتوجسُ خيفةً بينهُ وبينَ نفسه من كل ما هوَ غيرُ ملتزمٍ بالقواعد وكلُّ ما هوَ مفاجئٌ هوَ بالطبع مخالفٌ للقواعد إلى حد ما يا سبحان الله إن مثل هذا الطفل في النهاية لابد يتحولُ إلى شخصٍ جامدٍ متحجرٍ لا يستطيعُ أن يحسَّ إلا بالقواعد والأطر واللوائح وكلِّ ما هوَ غيرُ إنساني أو كل ما هو محددٌ بدقةٍ وانتظام، إن عدم القدرة أو عدم السماح بإظهار الحب مباشرةً من جهة الوالدين أو إظهارهُ فقط بصورٍ أخرى مثلَ تلبية الحاجات المادية للطفل إنما يحملُ في طياته رسالةً للطفل مؤداها أن التعبير عن الحب من جهة الوالدين إنما يكونُ بتلبية الحاجات لا بالسماح بالتسيب وأن التعبير عن الحب من جهته هو للوالدين إنما يكونُ بطاعتهم والالتزام بعمل الأشياء كما يطلبون منه وينطبقُ هذا الوصفُ بالطبع أكثرَ ما ينطبق على حالات اضطراب الشخصية القسرية الوالدية التي ينجبُ فيها الوالدُ الموسوسُ أطفالاً موسوسين، ولنا أن نتخيل كيف يكون التأثير على المستوى النفسيِّ في الطفل أو الطفلة نفسها حين تكون موضوعًا لوسوسة الأم ويستطيع كل طبيب نفسي أن يتذكر من بين من قابل من حالات الوسواس تلك الأم التي تخافُ على عذرية طفلتها الصغيرة من أي رجلٍ وتقومُ بتعرية البنت وتفتيش ملابسها بحثًا عن نقطة الدم كما تقوم بالكشف على البنت بنفسها لكي تطمئن كلما حدث أن غابت البنتُ عنها وكان هناكَ احتمالٌ لانفراد رجلٍ بها !، كيف يؤثر ذلك في نفسية البنت، والتي لا تستطيع لا أن تتصرفَ بشكلٍ طبيعي مع الرجال الذين لابد وأن تتعامل معهم في حياتها بعد ذلك، ولا تستطيع أن تنسى لأمها ما تسببت لها فيه من الألم النفسيِّ وهيَ طفلةٌ صغيرةٌ، لكننا بالطبع يجبُ ألا ننسى وجودَ تهيئةٍ أو استعدادٍ لدى البنت نفسها للإصابة باضطراب الوسواس القهري والذي قد يكونُ للوراثةِ دورٌ فيه، لكننا لا نستطيعُ أن نقولَ أن لما تتعرض لهُ البنت من ضرارٍ نفسي وعاطفي Emotional Abuse دورًا في تهيئتها للإصابة باضطراب الوسواس القهري وإن كانَ من الممكنِ أن يهيئها ذلك الضرارُ للعصابية Neuroticism بوجه عام.
وهناكَ الكثيرُ من الحالات التي تأخذُ فيها وسوسةُ الأم شكل الخوفِ المفرط على أبنائها حتى من الذكور، وذلك ما يتحملهُ الأطفالُ طالما ظلوا أطفالاً، لكنهم عندما يقتربون من مرحلة البلوغ وعندما يبدؤون في مقارنة تصرفات الأم معهم بتصرفات أمهات أصدقائهم، غالبًا ما يبدؤون في إعلان الثورة والعصيان خاصةً في الحالات التي يتخذُ الأب فيها دورَ الناقد أو الساخر من تصرفات الأم ومشاعرها دونَ أن يتدخل بطريقةٍ إيجابية ويساعد الأم على العلاج، بل إن بعض الأبناء يسخرون من مشاعر الأم المسكينة التي يشعرهم خوفها عليهم بأنها ما تزالُ تراهم أطفالاً، وبعضهم يعمدُ إلى اللعب بأعصاب الأم المسكينة، ما أتكلمُ عنهُ بالطبع هو ناتجُ خبرةٍ شخصية يمنعني ضيقُ المقام هنا من الخوض في إعطاء تفاصيلها المرضية، لكن الذي لاحظت أنهُ صفةٌ مشتركةٌ بينَ الأمهات المصابات بهذه الحالة هوَ الإحساس المتضخم بالمسؤولية والتقييم المفرط لخطر غياب الولد عن عيونها.
وأذكرُ مدرسًا قرأتُ عنهُ (Insel & Akiskal ، 1986) كان يعاني من اضطراب الوسواس القهري وكانت لديه أفكارُ تلوثٍ تسلطية وأفعالُ تنظيفٍ وتطهيرٍ قهرية؛ ولمْ يكنْ يستطيعُ أن يسامحَ نفسه لأنهُ تسبب في موت صغيره ذي السبع سنوات من العمرِ لأنهُ ظلُّ يطهرُ الصبيَّ مستخدمًا المطهرات الكيميائية حتى تسبب في حدوثِ التهابٍ جلدي وصل من حدته أن مات بسببه الصبي ؛ وهل تدرونَ لماذا فعل هذا المدرسُ ذلك؟ لأنهُ كانَ يشكُّ في ممارسة ابنه ذي السبع سنين من العمر للعادةِ السرية وكانتْ هذه الفكرةُ التسلطيةُ تستوجبُ منهُ أن يطهرَ الولد من الإفرازات النجسة التي توجدُ على بطنه وفرجه وفخذيه!!!"، وأذكرُ رجلاً آخر كان يقومُ بالكشف على ابنه بنفسه كل أسبوعٍ ليتأكدَ من عدم تعرض الولد لاعتداءٍ جنسي من أحد الرجال أو من أصحابه أو أبناء عمومته أو أحد الجيران، ثمَّ عندما كبرَ الولدُ لجأ للطبيب النفسي دون علم والده، ولم يكنْ من الأب إلا أن انهار بسبب فضيحة ابنه لهُ" وكذلك كثيرا ما نسمع في التاريخ المرضي للموسوسة من زوجها عبارات مثل "أنها تسرفُ حتى في تنظيف الأطفال حتى أنه كثيرًا ما يخاصمها لخوفه على أطفاله من النزلات الشعبية" أي أن الأمرَ يمكنُ بالفعل أن يسبب ضرراً جسديًّا إضافةً إلى الضرر النفسي؛ كما إنني أذكرُ أمًّا كانتْ تقوم بالكشف على بنتيها بمعدل مرةٍ أو مرتين في اليوم خلال مدةٍ تزيدُ على السنة، وعندما اكتشفَ زوجها ذلك ألزمها بأن تعرضَ نفسها على الطبيب النفسي، وأنا في الحقيقةِ أرتعدُ من تخيل ما يمكنُ أن يكونَ قد أصاب طفلتيها من ألم نفسي وهما دون التاسعة من العمر؟، إن تأثيرَ الوسوسة الوالدية على الأطفال يمكنُ أن يأخذَ بالفعل شكلاً مأساويًّا عندما يكونُ الطفلُ موضوعَ وسوسة الأب أو الأم"
وأما في الحالة الثانية التي تكونُ فيها الوسوسةُ الوالديةُ متعلقةً بموضوعٍ آخرَ غير الطفل ذاته فإن المشاكلَ قد تنتجُ من فرض بعضِ القيود على الأطفال كقيودٍ تتعلقُ بالنظافة مثلاً مثل الاضطرار إلى غسيل المفاتيح مثلاً عند العودة من الخارج أو إرغام الأبناء على غسيل اليدين بطريقةٍ معينةٍ أو لعددٍ معينٍ من المرات فالذي يحدثُ هنا أن الأب أو الأم وهما مصدرُ التشريع في البيت، وقدوة الأطفال تهتزُّ صورتهم في عيون أطفالهم، فإن كانَ الأب فإن المصيبةَ أهونُ لأنها تسمحُ للأطفال أكثرَ بأن يعيشوا بشكلٍ طبيعي بعض الوقت نظرًا لضرورة وجود الأب خارج البيت لفترات طويلة أثناء سنين طفولة أولاده، لكنما في حالة الأم تكونُ الظروفُ أصعبُ وأقسى ولعل في حالة السيدة نورا التي ذكرتها في فصل اضطراب الوسواس القهري ما يذكرنا بما أقصده أنا هنا، فقد قالَ زوجها: وابنها عندما سمع كلامي في مرة من المرات ولم يغسل مفاتيح الشقة بعد عودته من مدرسته أو بالأحرى قبل دخوله غرفـتها كانَ جزاؤهُ أنها فرضت عليه طول حياته معها في نفس البيت أن لا يدخل من باب البيت إلا إلى الحمام حيث يستحم لأنها لم تعد تكتفي بغسل يديه كما كانت وإن لم يفعل فهيَ ستضعه على قائمة من هم في حكم أبيه؟ هؤلاء الأطفال يربونَ إذن في جوٍّ ملبدٍ بالخوف والقلق وعدم الثقة في أنفسهم وعدم الإحساس بالاعتداد بالأسرة، وبعضهم تصيبهُ حالةٌ من اللامبالاة، ويصلونَ إلى الإحساس بالدونية وعدم القدرة على الحياة في بيوتهم بالشكل الطبيعي، فإذا كبروا فإن احتمال ثورتهم على كل شيء يزيدُ وهم لا يسامحون أنفسهم في أغلب الأحيان على اضطرارهم للكذب على الأم أو الأب في أحيان كثيرةٍ فهم إذا كانوا طبيعيين وأرادوا أن يعيشوا كذلك لابد أن يضطروا للكذب ويتفوهونَ أحيانًا بتحاليل لحالة الوالد الموسوس أو الوالدة الموسوسة إنما تنمُّ عن إحساسٍ دفينٍ بالمرارة والعجز وتنمُّ أحيانًا عن السخرية من عدم القدرة على التزام السلوك المنطقي من الوالد أو الوالدة وبعضهم يوسع رأيهُ ذلك فيرى كل أفكار الوالد أو الوالدة أفكارًا مرضية.
وأما الحالةُ الثالثةُ فهيَ تأثيرُ الإصابةِ الوالديةِ باضطراب الشخصية القسرية وكلمةُ الإصابة هنا في الحقيقة قد لا تكونُ موفقةً لأن اضطراب الشخصية إنما هوَ اضطراب في السمة بمعنى أنهُ يصبغُ حياةَ الشخص كلها منذ بداية مراهقته أو حتى منذ سنين طفولته وعلينا أن نستنتجَ من ذلك أن الأب أو الأم هنا يكونُ موسوسًا من قبل أن يكونَ أبًا أو أمًّا !!، بمعنى أن الأطفال يولدونَ وهوَ أو وهيَ على هذه الحالة، صحيحٌ أن الحالةَ تتميزُ بتداخل الأعراض فيها مع السلوكيات الحياتية العادية ويكونُ التمييز بينَ ما هوَ دليلٌ على المرض وما هوَ سلوكٌ بشريٌّ عادي أمرٌ يحتاجُ إلى خبرةٍ وإلى وقتٍ لكي يفصلَ فيه لكنَّ من يعيشونَ مع صاحب الشخصية القسرية يختلفُ الأمرُ بالنسبة لهم فشريكُ الحياة والأبناء إذن وضعهم مختلف لأنهم أكثرُ من يعانونَ من الجوانب السلبية في هذه الشخصية.
فالجوانبَ الإيجابيةَ في الشخصية القسرية، إذا ما استرجعناها إنما تتمثلُ في الانضباطِ والالتزام باللوائح والقوانين مع الإخلاص والتفاني في العمل وهيَ أشياءٌ ربما ينتفعُ بها المجتمعُ أو المؤسسةُ التي يعملُ بها صاحب الشخصية القسرية كما أنها تساعدُهُ هوَ في بناءِ وضعه الاجتماعي، لكنَّ من هم في وضع المرؤوسين لهُ في العمل يعانونَ من الضغط الذي يمارسهُ عليهم ومن عدم رضاه عن كل ما يفعلون ومن انتقاده المستمر لهم، وأما من هم في وضع الأبناء أو شريك الحياة لصاحب الشخصية القسرية فإنما يشعرونَ في أحسن الأحوال بأنهُ غائبٌ عنهم لأنهُ لا وقتَ لديه للمشاعر أو بمعنى أصح للتعبير عن المشاعر، إنهُ شخصٌ جاف جدا وجادٌّ جدا إلى الحد الذي يفوق احتمال البشر في الكثير من المواقف، ثمَّ إذا تذكرنا الترددَ الذي يعانيه عندما يطلبُ منهُ اتخاذُ قرارٍ وإذا تذكرنا صفةَ البخل أو الحرص إذا كانتْ من بين صفاته الواضحة أو المؤثرةِ فإننا نستطيعُ أن نتخيل كيفَ تكونُ معاناةُ الأبناء في هذه الحالة.
والحقيقةُ أن كونَ الأم صاحبةَ شخصية قسرية لابد أن يكونَ أكثر تأثيرًا على الأطفال من كون الأب هو صاحبُ الشخصية القسرية نظرًا لحميمية وطول العلاقة مع الأطفال من جانب الأم، وهناكَ واحدةٌ من النقاط المتعلقة بهذا الموضوع وضعت فيه بعضُ الفرضيات ولكنها لم تثبتْ بالملاحظة العملية في عيادات الطب النفسي، وهذه النقطة هيَ عمليةُ التدريب على استخدام الحمام Toilet Training فكما ذكرتُ في فصل اضطراب الشخصية القسرية فإن نظرية التحليل النفسي ترجعُ أسباب تكونِ الشخصية القسرية إلى الصعوبات النفسية التي يواجهها الطفلُ أثناء هذه الفترة إذا وصلت شدتها وحدتها إلى المستوى الذي يحدثُ معهُ تثبيتٌ في هذه المرحلة "المرحلة الشرجية" من مراحل النمو النفسي الجنسي Anal Fixation ولنتخيل أما موسوسةً أو صاحبةَ شخصية قسريةٍ فمن الطبيعي أنها ستتوقعُ من أطفالها قدرةً مبكرةً على التحكم والانضباط وهو ما لا يحدثُ دائمًا كما أنهُ يفتحُ احتمالاتٍ كثيرةٍ لأشكال التأثير السلوكي على الأطفال، هذه الأم ربما تحاول تدريب طفلها على التحكم في عملية التبرز في سن صغيرة ربما كانت حتى أقل من السنة، ومعروف كما ذكرتُ سابقًا أن نموَّ الوصلات العصبية بينَ النخاع الشوكي وبين القشرة المخية تلك الوصلات التي تجعلُ ذلك التحكم ممكنًا إنما يحدثُ في السنة الثانية من العمر وربما قرب نهايتها، معنى ذلك أن هذه الأم تطلبُ من طفلها ما لايستطيعُ هوَ بيولوجيًّا أن يصل إليه، وبما أن صاحبة الشخصية القسرية لا تعترفُ بالضعف أو بالعجز البشري إلا مرغمةً ولا تغفرُ الإهمال أبدًا فإن مثل هذا الطفل طفلٌ مسكين لأن أمه تريدُهُ أن يطلب النونية وهوَ بعدُ لا يتلقى في وعيه الإشارةَ بأن المستقيم ممتلئٌ وأنهُ على وشك التبرز كما يحدثُ في الكبار!، لكنها لا تفهم ذلك وتريدُ من طفلها أن يكونَ نظيفًا منذُ ولادته إذا استطاعتْ.
وكانت هناكَ نظريةٌ تتعلقُ بهذا الموضوع(Anthony ، 1957) حيثُ كانتْ تقولُ بأن معظم الأطفال الذين يعانونَ من التبرز اللاإرادي الثانوي Secondery Encopresis "أي الذي يحدثُ بعد فترةٍ من اكتساب القدرة على التحكم في عملية التبرز، وليس التبرز اللاإرادي الأولي Primary Encopresis والذي غالبًا ما تكونُ أسبابهُ عضويةً أو نتيجةً للإهمال عملية التدريب على استخدام الحمام من جانب الأم"، معظم هؤلاء الأطفال يكونونَ أطفالاً لأمهات من صاحبات الشخصية القسرية، إلا أن هذه النظرية لم تلقَ الكثيرَ من الدعم خلال الممارسة العملية للطب النفسي (Olatawura ، 1973)، فقد وجدَ أن القلقَ هوَ أكثرُ سماتِ هؤلاء الأطفال كما أن سمات الشخصية القسرية ليست هيَ سماتُ اضطراب الشخصية الوحيد ولا حتى الأغلب بينَ أمهات الأطفال المصابين باضطراب التبرز اللاإرادي.
وفي دراسةٍ غربيةٍ حديثةٍ طريفةٍ درس تأثيرُ الوسوسة الوالدية على الاستجابةِ لأحد عقاقير الم.ا.س.ا الأوروبية، حيثُ شارك في الدراسة أحد عشر طفلاً ومراهقًا من مرضى الوسواس القهري إضافةً إلى أحد والدي كل واحدٍ منهم وأعطت الدراسةُ نتيجةً تعاكسُ كل ما توقعناهُ فقد كانت الاستجابةُ للعقار في الأطفال أفضلُ بكثيرٍ في أطفال الوالد الموسوس منها في الحالات الأخرى التي يكون فيها الوالد سليمًا أو مريضًا باضطراب نفسي آخر غير الوسواس القهري (Yaryura-Tobias et al.،2000)، ويفهمُ من هذه النتيجة أن للوسوسة الوالديةِ تأثيرًا إيجابيًّا على الطفل المصاب باضطراب الوسواس القهري! ولعل ما يفسر ذلك هوَ كونُ الوالدين على علمٍ بسخافة وصعوبة المرض وبضرورة علاج الطفل منه لكنني لا أظنُّ مثل هذه النتائج يمكنُ أن تشابه نتائج دراسةٍ تجرى في بلادنا لسبب بسيط هوَ أن معظمَ الكبار من الموسوسين لايعالجونَ ولا يعرفونَ أنهم مرضى.
إلا أن الدراسات التي أجريت لبيان تأثير أساليب التربية الوالدية على المرضى النفسيين بينت تأثيرًا سلبيًّا لزيادة الحماية الوالدية Parental Protectiveness للأطفال خاصةً في حالة اضطرابات القلق(Turgeon et al.،2002) والتي تشمل اضطراب الوسواس القهري لكن هذه الدراساتُ حتى الآن تعتمدُ على تذكرِ الكبار من المرضى لأيام طفولتهم وهوَ ما يشككُ في النتائجِ إلى حد ما، إذن فعلى الرغم من أن التخيل والتوقعَ والبناءَ على الفهم ممكنٌ إلا أن الاستنتاجات التي نصلُ إليها لا تكونُ دائمًا صحيحةً، وهناكَ خاصةً في مسألةِ تأثرِ الأطفال بطريقة التربية أو أسلوب التعامل الوالدي، هناكَ عوالمُ من الاحتمالات في حقيقة الأمر ولا يعلمُ الغيبَ إلا الله لأن التفاعل بينَ المادة الوراثية والظروف البيئية إنما يستطيعُ إعطاءَ احتمالاتٍ لا حصرَ لها وبعض الدراسات الغربية (Parker et al.،1979) و(Haffner، 1988) و(Leckman et al.، 1999) تؤيدُ ذلك حيث تبينُ أن الوالدين الموسوسين يعطونَ أطفالهم اهتمامًا أكثرَ من غيرهم وهوَ ما يفتقدُ إليه الكثيرونَ في الغرب.
فلا نستطيعُ أن نعمِّمَ ونقولَ أن تأثيرَ الوسوسة الوالدية على الأطفال هوَ كذا أو كذا لأن طريقةَ تشكل السمات الشخصية لا تقاسُ ولا يصحُّ التنبؤ بهذه السهولة، وكلُّ ما نستطيعُ قولهُ هوَ أن الوسوسة الوالديةَ كثيرًا ما تحمل الأطفالَ ألمًا نفسيا ومعاناةً ربما يكونُ لها أثرٌ على سلوكِ الطفل فيما بعد، كما يمكنُ أن تكونَ لها تفاعلاتٌ مع ما يحملهُ هذا الطفلُ من مورثات جينية يأخذها من الأب الموسوس أو الأم الموسوسة ولكنَّ الشكل الذي سنصلُّ إليه في النهاية يصعبُ التنبؤ به.
المراجع:
1- وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصداريونيو 2003 عدد 293.
2- Chambless, D.L. & Steketee, G.(1999) : Expressed emotion and behaviour therapy outcome: A prospective study with Obsessive Compulsive & Agoraphobic outpatients. J. of Consulting & Clinical Psychology, 67, 658- 665.
3- Waters. P. & Barrett, P.M. (2000): The role of the family in childhood Obsessive Compulsive Disorder. Clinical Child and Family Psychiatry Review, 3 (3), 173-184.
4- Nstadt G., Samuels j., Riddle m. A., Liang k.-y., Bienvenu o. J., Hoehn-saric r., Grados m.andCullen b. (2001):The relationship between obsessive–compulsive disorder and anxiety and affective disorders: results from the Johns Hopkins OCD Family Study. 2001 - Volume 31, Issue 03
5- Insel , R. T and Akiskal , H.S. (1986) : Obsessive Compulsive Disorder with Psychotic Features : A Phenomenological Analysis. American Journal of Psychiatry, Volume 134(12) Page : 1527-1533.
6- Anthony, E.J.(1957) : An Experimental Approach to the Psychopathology of Childhood : Encopresis. Brit. J. Med. Psycho., 30, P : 146-175.
7- Olatawura , M. (1973) : Encopresis : A Review of Thirty Two Cases. Acta Psychi. Scandinavica .V. 62,P 358-364.
8- Yaryura-Tobias JA, Grunes MS, Walz J, Neziroglu F (2000): Parental OCD as a prognostic factor in a year long fluvoxamine treatment in childhood and adolescent OCD. Int Clin Psychopharmacol 2000 May;15(3):163-168.
9- Turgeon L; O'Connor KP; Marchand A; Freeston MH (2002) : Recollections of parent-child relationships in patients with OCD and panic disorder with agoraphobia. Acta Psychiatr Scand - 105(4): 310-316.
10- Parker , G. , Tupling, H., and Brown , L. (1979) : A Parental Bonding Instrument. British Journal of Med. Psychology. V. 52, P: 1-10.
11- Leckman, J.F. Mayes, L.C. Feldman, R. Evans, D.W. A.O. (1999): Early parental preoccupations and behaviors and their possible relationship to the symptoms of OCD. Acta Psychiatrica Scandinavica, n.sup.396, p.1-26,
12- Haffner, R.J.(1988) : OCD : Questionnaire Survey of a Self Help Group Int. J.Social Psychiatry.V. 34, P : 310-315.
واقرأ أيضًا:
طيف الوسواس OCDSD اضطراب وسواس قهري / طيف الوسواس OCDSD شخصية قسرية وسواسية / التدريب على التبول والتبرز Toilet Training