الصحة النفسية في الحمل والولادة والرضاعة3
العلاج الطبنفسي أثناء الحمل وبعد الولادة
علاج الاضطرابات النفسية في المرأة والحامل والأم بعد الولادة يتطلب أحياناً جهوداً لفريق له خبرة في هذا المجال، ولكن الغالبية العظمى من الحالات يتم علاجها في مراكز العناية الطبية الأولية.
تلعب القابلة التي تعمل في المجتمع Community Midwife الدور الأهم في الكشف عن وجود اضطرابات نفسية أثناء الحمل وبعد الولادة. يتم تدريب القابلة على البحث عن الأعراض النفسية المتعددة في مختلف المراحل واستشارة الطبيب العام أو مركز الصحة النفسية عند الحاجة والاستعانة بخدماتهم للتشخيص والعلاج.
حمل المرأة المصابة باضطراب ذهاني مزمن وخاصة الفصام يثير انتباه الفريق الطبنفسي المسؤول عن رعايتها وتبدأ متابعتها منذ الأيام الأولى للحمل. هذه الرعاية تتطلب أحيانا تكثيف الجهود والخدمات الصحية وتواجه الفريق الطبنفسي تحديات متعددة وفي مقدمتها قابلية المريضة للرعاية بطفلها في المستقبل. في الوقت الذي تكون الممرضة الطبنفسية هي المسؤولة عن تنسيق الخدمات الصحية للمريضة المصابة بالفصام في غالبية الحالات ولكن هذه المسؤولية تتطلب جهودا إضافية من العاملة الاجتماعية عند حدوث الحمل وقد تنتقل إليها مسؤولية تنسيق الخدمات.
إحدى التحديات التي تواجه الطب النفسي من المريضة المصابة للفصام هي استمرار الحمل. لا يحق لأي عضو من أعضاء فريق الصحي أن ينصح الأم بإجهاض جنينيها ويجب أن يكون ذلك قرارها الأول والأخير. متى ما تم اتخاذ الأم الحامل القرار بإجهاض جنينها فيجب أن تتم ذلك بأسرع وقت ممكن وفي الأشهر الأولى للحمل وعدم الانتظار إلى النصف الثاني من فترة الحمل حيث يكون الإجهاض أقرب إلى عملية ولادة ووقعه في غاية الشدة والألم على الأم نفسياً.
الطفل في عصرنا هذا هو مسؤولية الدولة قبل أن يكون مسؤولية الأم وعلى الدولة توفير الخدمات الصحية والاجتماعية التي تساعد الأم على العناية بطفلها. عدم قابلية الأم على العناية بطفلها لسبب أو لآخر وتأثير ذلك على الطفل بصورة مباشرة أو غير مباشرة يؤدي دوماً إلى تحقيقات مطولة ومحاسبة المؤسسات الصحية والاجتماعية وليس من الغريب أن ينتهي أمر المدير العام المسؤول عن المؤسسة. ولكن في نفس الوقت تواجه الخدمات الاجتماعية سخط الجمهور حين تتخذ إجراءات مشددة بسحب رعاية الطفل من الأم إلى الدولة مباشرة ويتم نعتها بالتسلط والجبروت وعدم التعامل الإنساني مع الأمهات. لذلك ترى بأن العمل في هذا القطاع من الخدمات الطبية الاجتماعية غير مرغوب فيه مقارنة باختصاصات أخرى.
ليس هناك مفراً من اللجوء إلى القضاء لحسم كل قضية سحب رعاية الطفل من الأم إلى الدولة ويتم بعد ذلك تعيين وصيا Guardian يعمل جنبا إلى جنب مع الخدمات الاجتماعية والخدمات الصحية وضمان رعاية الطفل. لا يتوقف الرجوع إلى القضاء في هذه الحالات ولا يتم اتخاذ القرار النهائي بسحب رعاية الطفل من الأم نهائيا إلا بعد عدة مراحل قد تستغرق أكثر من عام من مرافعات قضائية.
رغم أن الكثير من الاستشاريين في الطب النفسي يملكون المقدرة على إعطاء الرأي في قضايا رعاية الطفل ولكن تعقيداتها القضائية والإلمام بالمصطلحات المختلفة في التعامل مع القضاء والوصي والخدمات الاجتماعية تتطلب خبرة لا يمكن اكتسابها إلا بالعمل في هذا المجال. لا توجد مبالغة في القول بأن كتابة تقرير طبنفسي قضائي في هذا المجال أصعب من بقية القضايا عشرات المرات وإن كان الطبيب النفسي لا يمتلك الخبرة فيه فعليه تجنبه ورفع القضية إلى زميل له يمتلك الوقت والخبرة والثقة بالأدلاء بآراء قد تواجه تحدي القضاء من مختلف الأطراف.
أين تُعالج الأم؟
تحتاج الأم أحيانا الدخول إلى المستشفى لعلاج اضطراب نفسي جسيم في العام الأول بعد الولادة. توجه الطب النفسي هذه الأيام إلى علاج الاضطرابات النفسية الجسيمة في داخل المجتمع بعيداً عن المستشفيات ولكن الدخول إلى المستشفى طوعيا أو قسرياً لا يمكن تفاديه في بعض الحالات. الغالبية العظمى من هذه الحالات يمكن علاجها في ردهات الطب النفسي العام مع الحرص على تواصل الأم مع طفلها بصورة منتظمة ولكن هناك من الحالات المعقدة بسبب عوامل اجتماعية أو طبية تحتاج إلى ردهة خاصة يعمل بها فريقٌ مختصٌ بالطب النفسي لفترة ما حول الولادة Perinatal Psychiatry.
توجد ردهة واحدة في كل مدينة أو مقاطعة لاستقبال مثل هذه الحالات والتي تسمح بوجود الطفل الرضيع مع أمه طوال فترة العلاج. ينتهز الفريق الطبي المختص وجود الطفل لمراقبة تفاعل الأم مع طفلها وتقييم كفاءتها للعناية به. الكثير من هذه الحالات هي لمرضى الفصام ولكن اضطراب الشخصية الحدية Borderline Personality Disorder هو الآخر يحتاج إلى مثل هذه الردهة ويشكل تحديا أكبر من بقية الاضطرابات النفسية.
دخول الأم مع طفلها إلى ردهة الطب النفسي يتطلب تقييماً مفصلاً لسلامة الطفل وإن كان هناك أدني شك في وجود مثل هذا الخطر فمن الأفضل عدم السماح للأم بحضانة الطفل خلال تلك الفترة. لا يوجد دليلٌ علميٌ قاطعاً يثبت تدهور التعلق بين الطفل والأم بسبب الفراق وعلاج الاضطرابات النفسية لفترة محدودة.
العقاقير أثناء الحمل والرضاعة
القواعد العامة التي يلتزم بها الطبيب في هذا المجال هي:
1- كل عقار يمكن أن ينتقل من الأم إلى الجنين.
2- كل عقار يمكن أن يؤثر على نمو الجهاز العصبي المركزي للجنين في الأسابيع العشرة الأولى للحمل ومن الأفضل تجنب وصف العقاقير في هذه الفترة.
3- كل عقار يمكن أن ينتقل من الأم إلى الطفل الرضيع عبر الرضاعة.
4- لا يجوز حرمان الأم من العلاج إذا كانت بحاجة إليه.
5- إذا تم وصف عقار للأم الحامل أو المرضعة فيجب إعلام الام باحتمال المخاطر مهما كانت ضئيلة.
الدراسات الميدانية والعلمية في هذا المجال صعبة التفسير أحيانا ومن الأفضل الالتزام باللوائح والتوصيات الوطنية الصادرة من وزارة الصحة في هذا المجال والتي يتم تحديثها بصورة مستمرة. ما هو اليوم حقيقة مثبتة قد تتغير تماما بعد شهر وهكذا. يدون الطبيب ما تحدث به مع الأم الحامل والأم المرضعة في ملفها الطبي بعد وصف أي عقار.
تأثير العقاقير المضادة للذهان على الأم الحامل10 لا يختلف عن تأثيرها على غير الحامل، والدراسات الميدانية حول تأثير هذه العقاقير غير قاطعة، إن كانت الأم بحاجة إليها فلابد من وصفها. الذهان عملية شديدة في تأثيرها على الأم وعلى الجنين الذي تحمله.
العقاقير المضادة للاكتئاب مثل السيترالين Sertraline والباروكستين Paroxetine والنورتربتيلن Nortriptyline والإميبارمين Imipramine يجوز استعمالها أثناء الحمل والرضاعة7مع مراعاة القواعد الطبية أعلاه.
عقاقير البنزوديازابين Benzodiazepines هي الأخرى سليمة وإن كانت مواد كيمائية غير مرغوب فيها في الحامل وغير الحامل على حد سواء، لكن يجب توخي الحذر من حدوث أعراض انسحابية في الجنين مباشرة بعد الولادة. هذه الأعراض قد تكون أحيانا على شكل نوبات صرع عامة ولذلك يفضل وقف هذه العقاقير في الأسبوع الأخير على الأقل قبل الولادة.
أما الليثيوم فأمره شديد12 ويضاعف ثلاث مرات احتمال حدوث تشوهات خلقية و8 مرات تشوهات قلبية عند الجنين، من الأفضل عدم وصفه قدر الإمكان. كذلك الحال مع العقاقير المضادة للصرع والمستعملة في الصحة النفسية وفي مقدمتها الفالبرويت (عيوب الأنبوب العصبي) والكاراباميزابين على عكس العقاقير الحديثة فهي أكثر أمانا للاستعمال في الحمل والرضاعة.
في عام 1998 صدر بحث للدكتور أندرو ويكفيلد الأخصائي في أمراض الجهاز الهضمي واستنتج حينها بأن لقاح الحصبة والنكاف والحميراء المعروف عالميا بلقاح MMR قد يؤدي إلى إصابة الأطفال باضطراب التوحد. أدى هذا البحث إلى تدني نسبة الأطفال الذي يستلمون هذا اللقاح عالميا وبالتالي ظهور وباء الحصبة في مختلف أنحاء العالم الغربي. والحقيقة الواقعية هي أن ربط هذا اللقاح بالتوحد لا يستند إلى حقيقة علمية وحرمان الطفل منه قد يؤدي إلى مضاعفات طبية.
تم نشر هذا البحث عام 1998 في واحدة من أرقي المجلات الطبية وهي اللانسيت Lancet. أجرت المجلة نفسها تحقيقا شاملا في نتائج البحث وطريقة عمله واكتشفت تحيزاً لا يقبل الطعن فيه بأن حماس الطبيب المشرف على البحث دفعه إلى التخلي عن حياده العلمي وبالتالي الوصول إلى نتائج تتوازى مع معتقد تمسك به لسبب أو آخر.
وقبل عدة أشهر ظهر بحث من كندا يشير إلى أن تعاطي العقاقير المضادة للاكتئاب في الثلث الثاني والأخير من الحمل قد يكون له علاقة بتشخيص التوحد في الأطفال. سرعان ما علمت الصحف العالمية بهذا البحث حتى سارعت بنشر مقالات عنه وتحول رعب الأمهات الآن إلى هذه العقاقير.
العلاقة الإحصائية بين عاملين في درسات ميدانية لا تعني بأن العقار هو السبب في إصابة الطفل بالتوحد ويجب توخي الحذر في الوصول إلى أي استنتاج عن طريق مثل هذه الدراسات التي تبحث عن العلاقة بين عوامل مختلفة. كان عدد الأمهات الحوامل في الدراسة يقارب الـ 150 ألف وعدد الأطفال الذين تم تشخيصهم بالتوحد بعد ذلك 31 فقط أي 0.72% من جميع الولادات. أما نسبة الأمهات اللاتي تعرضن للعقاقير فكان 3.2%. سارعت الخدمة الوطنية الصحية (National Health Service (NHS في بريطانيا5 إلى تقييم الدراسة وبسرعة وأصدرت تعليماتها بأن نتائج البحث لا تعني بأن العقاقير المضادة للاكتئاب تسبب التوحد ونصحت باستمرار استعمال هذه العقاقير إذا كانت الأم الحامل بحاجة إليها.
مفهوم التوحد بحد ذاته في غاية التعقيد ويتم استعماله جزافاً وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وقد انتقلت هذه الظاهرة إلى جميع أنحاء العالم. تعريف هذا المفهوم يحتاج إلى توضيح أكثر واستحداث مصطلح طيف التوحد Autism Spectrum ضاعف من هذا التعقيد اجتماعيا وطبياً.
الخلاصة
ليس من غير المقبول القول بأن رقي أي بلد أو ثقافة أو حضارة يمكن تقييمه من خلال دراسة خدماته الطبية في مختلف المجالات وفي مقدمتها الخدمات الصحية للأم الحامل قبل وبعد الولادة والعناية بالطفل. الطفل هو مسؤولية الدولة والمجتمع منذ بداية تكوينه وهذه المسؤولية تتطلب بذل الجهود وتوفير الخدمات التي تعنى به ليس في مرحلة الطفولة فحسب وإنما بعد البلوغ وفي مراحل تعليمه وعمله. هذه الحقيقة يجب أن يستوعبها كل من ينادي بشعارات وطنية ويعمل في مختلف أقسام الدولة السياسية التي يجب أن تضع نصب عينيها مستقبل البلد ومواطنيه وأجيال المستقبل. دون ذلك لا يتم بناء الوطن بل تدميره.
المصادر:
5- NHS Choices (2015). Antidepressant use in pregnancy linked to childhood autism. Published online 15 December 2015.
7- Scalea T, Wisner K (2009). Antidepressant medication use during breastfeeding. Clin Obstet Gyneacol 52(3):483-497
10- Vigod S, Gomes T, Wilson A, Taylor V, Ray J (2015). Antipsychotic drug use in pregnancy: high dimensional, propensty match, population based cohort study. BMJ published online 13 May 2015.
12- Williams K (2000). Lithium and Pregnancy. BJPsych Bulletin Published online 01 June 2000.
واقرأ أيضًا:
من ثقافة التجميل إلى آفاق الجمال / مقاييس باربي في الميزان / استعباد النساء Subjugating Women / أ.ر.ق النساء: الرغبة الجنسية قاصرة النشاط في النساء