الذكاء مصطلح متعدد الاستعمالات. يبدأ الأبوان باستعماله لوصف سلوك الأطفال والتنبؤ لهم بمستقبل مليء بالرفاهية ومواجهة تحديات المستقبل. يستعمله المعلم لتصنيف طلابه ويستعمله الفرد هذه الأيام عن طريق الإنترنت ويحصل على وثيقة تحتوي على رقم معين معلنا بأنه إنسان خارق الذكاء. أما الأغرب من ذلك فهناك منتدى عالمي لمن يصفون أنفسهم بأذكياء فوق العادة ويسأل السائل وهل من الذكاء أن تنتمي إلى مثل هذا المنتدى؟
الناس تفهم الذكاء هذه الأيام بأنه رقم حاله حال الوزن والطول وهذا ما يفعله الكثير من العاملين في الصحة النفسية. لكن الإجماع هو أن الذكاء يعني:
1- قابلية الفرد على تغيير وتحوير سلوكه استجابة للظروف.
2- القابلية على التفكير المجرد مع استعمال رموز وتمثيل عقلي لشتى الأمور.
3- القابلية على اكتساب المعرفة.
4- المقدرة على حل مشكلة أو معضلة.
وحين يتحدث الناس عن الذكاء والإشارة إلى رقم معين فهو ما نسميه حاصل الذكاء Intelligence Quotient وهو العمر العقلي/ العمر الزمني. إذا كان أداء الفرد عقليا أعلى من الأداء المتوقع من عمره سيتم منحه وسام الذكاء العالي والعكس صحيح. هذا الرقم لا يتغير كثيراً مع العمر.
ولد مصطلح حاصل الذكاء في عام 1912 من قبل العالم وليم شترن وباللغة الألمانية يدعى Intelligenz quotient ومن ثم تم اختصاره إلى IQ. متوسط حاصل الذكاء هو 100 وذلك يعني أن عدد الأفراد الذين هم دون ذلك الرقم أو أعلى منهم يشكلون 50% من عدد السكان. حاصلة ذكاء ثلثي السكان هو 85 – 100، وهناك 5% من السكان من يتجاوز 125 و5 % دون 75.
هناك العديد من الاختبارات النفسية لقياس الذكاء وأشهرها هو مقياس ويشلر لقياس الذكاء في الراشدين ويعرف بالـ “WAIS" وهو مختصر Wechsler Adult Intelligence Scale والذي تم استحداثه عام 1955. لا يزال هذا الاختبار يتصدر قائمة الاختبارات في الممارسة السريرية والعملية رغم ظهور أكثر من مقياس.
يتم تقسيم المقياس إلى :
٠ حاصل الذكاء الأدائي Performance IQ.
٠ حاصل الذكاء اللفظي Verbal IQ.
يعتمد الأول على سرعة معالجة الفرد للمعلومات وتنظيم إداركه عقلياَ للمحفزات التي يستقبلها. أما الذكاء اللفظي فهو يتعلق بذاكرته العملية واستيعابه وفهمه اللفظي. معدل الذكاء اللفظي يتقارب من الأدائي ولكن إن كان الذكاء الآدائي يقل عن اللفظي بمقدار 10 نقاط فذلك يشير إلى احتمال وجود مرض عضوي في الدماغ.
التاريخ المظلم لحاصل الذكاء
انتشر المفهوم مع نشوب الحرب العالمية الأولى والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الشباب الذكور. بدأ القلق من انقراض الرجل الأبيض يداهم رجال السياسة وقادة المجتمع في شرق وغرب الأطلسي. كذلك انتشرت نظريات التطور لداروين والتي لم يفهم منها الناس سوى أن الإنسان ينحدر من القرد واخترع الغلاة نظريات معاكسة تثير السخرية مبنية على نظريات عنصرية مدعومة بمعتقدات دينية ترسخ التفوق الوراثي للعائلات العريقة.
مع هذا المناخ المشحون بالقلق والخوف ووهام العظمة العنصرية ولد ما يسمى بعلم تحسين النسل أو الوجيني Eugenics وتم تعميده في مؤتمر عالمي في الولايات المتحدة عام 1921 وكان شعارهم أن تحسين النسل هو الاتجاه الوحيد للتطور. كان هناك معرضا في المؤتمر يصنف البشر ونسبهم العائلي إلى صنفين:
1 - الخط العائلي الراقي Aristogenic.
2 - الخط العائلي المعيب Cacogenic.
وأن العرق الأوربي الشمالي Nordic Race هو المتفوق روحيا وعقليا وأخلاقيا وجسدياً. من الممكن صياغة قرار المؤتمر بشن حرب ضد المستضعفين، والتوصية بمنع المتخلفين عقليا والمصابين باضطرابات نفسية من التناسل.
ولدت هذه الأفكار العنصرية المعادية في أمريكا وترعرعت فيها حتى نهاية العقد الرابع من القرن العشرين واستقبلها بحرارة الرايخ الثالث في ألمانيا وبدأ بوضع الخطط للتخلص من المصابين بصعوبات تعليمية. كان هدف النازية تحسين النسل العرقي الشمالي الأبيض ونشر مفهوم العائلة الألمانية المثالية كما تصورها هتلر، وولد مفهوم جديد هو: الحياة التي لا تستحق الحياة Life unworthy of life ، وأن هناك عرقا واحد يستحق البقاء وهو العرق الشمالي والذي تم تعميده آنذاك بالعرق الآري Aryan Race.
تم حصد جميع المصابين بصعوبات تعليمية ومشاكل عصبية تطورية. في الثلاثينيات قرر هتلر التخلص من المعوقين تعليميا لتحسين النسل الآري المثالي كما تصوره اللوحة الأولى.
واحدة من عدة لوحات تصور العائلة المثالية من وجهة نظر النازية من أجل تحسين النسل.
تم تثقيف الأطباء الأوغاد على استحداث ردهات أطفال خاصة kinderfachabteilungen يتم فحص الطفل الغير طبيعي ويملأ الطبيب 3 نسخ من ورقة خاصة ويتم إرسالها إلى برلين. تجتمع لجنة من الأطباء أسبوعيا وتضع واحدة من ثلاثة إشارات على إضبارة الطفل:
٠ + يبقى حيا
٠ ؟ فحوص أخرى
٠ _ يقتل.
أطفال في انتظار إشارة من برلين تقرر مصيرهم استناداً إلى حاصل الذكاء
العامل الوحيد الذي يفصل بين الإشارات الثلاث هو نتيجة اختبار الذكاء والرقم السحري الذي يصدر من فحص لا يستوعبه الكثير. يتم إرسال رسالة إلى ذوي الطفل مع صك بمصروفات حرقه أو دفنه.
هذا هو الجانب المظلم لحاصلة الذكاء.
حاصل الذكاء والمجتمعات
تعتمد الدنمارك وبعض البلاد الأوربية على قياس حاصل الذكاء قبل الخدمة العسكرية الإجبارية وإعفاء الذين تقع نتائجهم دون رقم 75. عندما درس الباحث فلن جيمس Flynn James هذه النتائج لاحظ ارتفاع معدل حاصل الذكاء كل عشر سنوات حتى عام 1998. بعدها لم يتغير وإنما بدأت تهبط. ارتفاع حاصل الذكاء في اليابان وكوريا الجنوبية كان أكثر من 7 نقاط. منذ صدور كتاب فلن وإلى الآن بدأ الباحثون يستعملون مصطلح تأثير فلن1 على هذه الظاهرة Flynn Effect.
هناك عدة تفسيرات لهذه الظاهرة ويمكن دراستها من خلال الطرفين: الامتحان والطالب. اختبارات الذكاء في متناول اليد والكثير من محتوياتها متوفرة عبر الإنترنت وهناك الكثير من يتدرب على اختبارات مشابهة. بعبارة أخرى أصبح الامتحان أسهل من قبل.
سهولة الامتحانات تشغل بال المخططين للتعليم في الكثير من بلاد العالم ولذلك قررت الحكومة البريطانية على سبيل المثال تغيير أساليب الامتحان في المراحل الإعدادية والثانوية رغم أن الدخول للجامعة لا يعتمد كليا على الدرجات ويتطلب اختبارات إضافية أحيانا للدخول في بعض الجامعات ويضاف إلى ذلك درجة الطالب الغير أكاديمية لفعالياته الرياضية والخيرية والاجتماعية. الدرجة الغير أكاديمية في غاية الأهمية في دراسة الطب مثلاً وتوازي الأكاديمية على أقل تقدير بل وأهم منها في بعض الجامعات.
ولكن هناك أيضا الطالب. الذكاء مفهوم متكامل يتكون من عدة أجزاء:
1 - الجزء البيولوجي من وراثة وجينات وصحة خلايا الجهاز العصبي.
2 - الجزء الفسيولوجي لمختلف أعضاء الجسم.
3 - الجزء المعرفي المتعلق بأفكار الفرد وتعامله فكريا مع بيئته.
4 - الجزء الاندفاعي Motivational الذي يقع تحت سيطرة وإرادة الفرد.
5 - الجزء السلوكي المتعلق بسلوك الفرد في البيت والمدرسة والجامعة.
قد يرث الإنسان جينات الذكاء ولكنه لا يرث الذكاء تماماً. ذكاء الفرد وأدائه يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها ويتم صقل الذكاء في البيت والمدرسة والمجتمع بأسره.
الأنثى ليست أكثر ذكاءً من الذكر ولكن أدائها التعليمي أفضل بكثير في المراحل الثانوية والإعدادية. يفسر الكثير من الباحثين بأن الذكور عموما أكثر كراهية للتعليم الثانوي والإعدادي والبعض منهم يتوجه إلى التدريب على حرفة ما بعيدا عن المدارس. يمكن تفسير ذلك من زوايا اجتماعية ونفسية وكذلك عصبية تطورية حيث أن الاضطرابات العصبية التطورية أكثر شيوعا في الذكور.
ولكن بعد دخول الجامعة يتحسن معدل أداء الذكور ويتفوقون قليلا على الإناث ويفسر الباحثون هذه الظاهرة بأن درجات التعليم الثانوي والإعدادي بسبب تفوق الإناث تدفع بشريحة أقل قابلية من الذكور إلى الجامعة وبالتالي ينتج أن معدل أداء الذكور في التعليم الجامعي يتفوق على الإناث. هناك بالطبع عامل مزاج الأنثى مقابل الذكر في الإقبال على التعليم الذي يتفوق على الذكور عموماً في مراحل المراهقة.
الألعاب الإلكترونية والذكاء
اتصالات الخلايا العصبية مع بعضها في الجهاز العصبي المركزي لا تختلف كثيرا عن اتصالات الأسلاك الكهربائية في تشغيل الكثير من الأجهزة والقاعدة العامة إن بعض مهارات الفرد تتحسن مع استعمال الكمبيوتر وكذلك التواصل مع الآخرين عبر الكمبيوتر فقط. ولكن كثرة التواصل عبر عالم الفضاء تؤدي إلى تدهور المهارات الاجتماعية للفرد ويميل تدريجيا إلى الانطواء. المهارة المعرفية الوحيدة التي تتحسن مع استعمال الكمبيوتر هو الانتباه البصري Visual Attention ويدعي البعض أن الجراح الممارس لجراحة ثقب المفتاح Keyhole Surgery له تاريخه في الإفراط بألعاب الفيديو. من الصعب القول أن هذه النتائج تستحق الذكر ولا أظن أن الغالبية العظمى من الطلبة الذين يمارسون هذه الألعاب يتوجهون لممارسة هذا النوع من الجراحة.
مناقشة عامة
لا يصعب ملاحظة تصنيف البشر إلى طبقات استناداً إلى قوتهم الجسدية، مهارتهم في أداء عملهم، موهبتهم الموسيقية، واستعمالهم اللغة في الحديث والكلام والتواصل مع الآخرين. ولكن يتم تصنيفهم أيضا استناداً إلى رقم ما اعتماداً على فحص بالورقة والقلم خلال وقت معين وفي يوم واحد وهو ما نسميه حاصل الذكاء. أداء البشر الوظيفي في الحياة ومواجهة التحديات المختلفة أكثر صدقاً من رقم يتم الحصول عليه للتعبير عن ذكائه وموقعه بين أقرانه في الحياة.
ولكن هناك رقما سحريا في اختبارات الذكاء يميز بين إنسان وآخر وهو رقم 70. أي رقم فوق هذا يصنف الإنسان طبيعي وأقل من ذلك دون الطبيعي. الدون طبيعي يستحق خدمات طبنفسية وتعليمية واجتماعية من قبل الدولة والمجتمع والقانون، وليس من المبالغة القول بأن الأحكام الجنائية بحقه تعفيه من المسؤولية المطلقة ولا يتم تنفيذ حكم الإعدام بحقه ولا يجوز إرساله إلى السجون.
هناك اختبارات متعددة لقياس القابلية الفكرية واللفظية للإنسان ويكثر استعمالها في الأطفال والمراهقين لأسباب تعليمية بحتة. يتم تحديد الصعوبة أو الصعوبات التعليمية التي تعيق الطفل ويتم الاستعانة بالنفساني التعليمي Educational Psychologist لتشخيص الصعوبات بدقة ووضع خطة عمل مشتركة مع طاقم التعليم3 لمساعدة الطفل في أي مرحلة من مراحل التعليم. تحرص المؤسسات التعليمية على دمج جميع الطلبة على مختلف قابلياتهم التعليمية في المدارس وعدم فصل الطلبة ذوي الصعوبات التعليمة من أقرانهم.
استعمال حاصل الذكاء في تقييم الطلبة لا مكان له هذه الأيام في تقييم الطلبة. يتم تقييم التعليم في المراحل الأولية حتى عمر 14 عاماً استناداً إلى نتائج الطلبة في 3 مواد وهي:
1 - اللغة
2 - الرياضيات
3 - العلوم
بعد ذلك يتم تصنيف المدارس والحرص على دراسة الأسباب وراء فشلها ووضع خطة عمل لتحسين أدائها2. تعطي الدول الأوربية تعليم اللغة أهمية كبيرة في جميع مراحل التعليم ومختلف فروعه العلمي والأدبي منها.
صموئيل جونسون: نشر أول قاموس للغة الإنكليزية عام 1755 وكان كتابه المصدر الرئيسي حتى صدور قاموس إكسفورد للغة الإنكليزية بعد 173 عاما. من بديع ما قال :بعد ضمان الحصول على دستورنا يجب علينا حماية لغتنا.
من النادر ملاحظة استعمال اختبارات الذكاء في الطب النفسي للبالغين ولا تثير اهتمام النفساني السريري في الممارسة المهنية. هناك اختبارات عدة لتقييم الحالة المعرفية للمرضى في الطب العصبي النفسي ولكن اختبارات الذكاء ليست واحدة منها.
حمل الإنسان لوثيقة تشير إلى رقم حاصلة ذكائه لا يساعد الإنسان في مسيرته لمواجهة التحديات في مختلف مراحل الحياة ويحمل معه وصمة يصعب التخلص منها.
المصادر:
1- Flynn, James (2012). Are We Getting Smarter? Rising IQ in the 21st Century. Cambridge University Press.
2- The national curriculum(2015). www.gove.uk
3- Shuell, T(1996). The role of educational psychology in preparation of teachers. Vol 31. Issue 1.
واقرأ أيضاً:
اختبارات الذكاء2
التعليق: كيف تعالج المعلومات الحسية في الأمجيدالا والقشرة الجديدة?
وهل فيهما ارتباط?