يقول الطبري في الطبيب الجيد: "يختار من كل شيء الأفضل، والأكثر ملاءمة. لا يكون عنيدا أو مهذارا أو طائشا أو متكبرا ولا يكون مغتابا، ولا مهملا في مظهره ولا كثير العطر أو سوقيا أو متكلفا في زيه، وألا يغتر بنفسه إذا ما وضع في منزلة أعلى من الآخرين، وألا يحب الخوض في أخطاء العاملين في مهنته، لكن عليه أن يحجب أخطاءهم على وجه السرعة" وغيرها مما يندرج تحت بنود الميثاق الأخلاقي البدائي. كلام جميل بالتأكيد غير أنه يعكس الطريقة التي كانت تتم بها ممارسة الطب قديما. طبيب ومريض وثالثهما الدواء الذي لم يكن بالشكل الصيدلاني المعقد الموجود حاليا. هل تغيرت العلاقة بين عناصر ثالوث الممارسة الطبية هذا عما كانت عليه أيام بن سينا والطبري والرازي وبن ماسويه؟ هل انتقلت من الممارسة الفردية إلى العمل المؤسسي ضمن فريق مدرب فعلا؟ هل يعي المريض المصري تحديدا أنه بحاجة لأكثر من طبيب مهندم رقيق التعطّر موجود على مكتبه ليُكتب له الشفاء؟! هل يعي القائمون على الأمر أنه لم يعد كافيا وجود طبيب ومريض معا لإنقاذ المريض والقطاع الصحي أيضا؟!
لا أبالغ لو أجبت عن هذه التساؤلات بلا. كل ممارسات الحكومة بداية من ضعف الإنفاق الحكومي على الصحة ضمن الموازنة العامة للدولة وبالمخالفة لتوصيات منظمة الصحة العالمية، وحتى جولات رئيس الوزراء الميدانية "ذات الصبغة الإعلامية" على وحدات الرعاية الأولية تجيب على هذه الأسئلة بـ:"لا". لم يعد خافيا على أحد أن القطاع الصحي الحكومي يمر بوعكة صحية خطيرة، وأن التطهير والعلاج ليسا رفاهية ولا يُحْتَمَل تأجيلهما. دعوات التطهير والعلاج أتت من داخل المنظومة نفسها، وأثبت الأطباء رغم مشاكلهم الكثيرة (الخاصة بالرواتب والتعليم الطبي المستمر، وفنيات الممارسة الطبية ذاتها) والضغط الإعلامي السلبي الواقع عليهم هذه الأيام أنهم يتمتعون بالوعي الكافي لأن يكونوا رقباء أنفسهم ورقباء على المنظومة الصحية ككل.
مرة أخرى، لا يمكن النظر لأزمة القطاع الصحي بمعزل عن سياسات الحكومة فيما يتعلق بصحة المصريين.
تبدو الحكومات المتعاقبة وكأنها كُلِّفت لتسيير الأعمال فقط بلا رؤية أو مشروعات أو منجزات حقيقية. البنية التحتية للمستشفيات في مصر آيلة للسقوط تقريبا، ولا تبدو بوادر الترميم في الأفق. نظرة سريعة على الأجهزة العتيقة والطلاء المتشقق والجدران المملحة والأسرة القديمة والتي قد تكون بلا ملاءات قطنية كافية جدا لكشف حقيقة الوضع. نظرة أخرى على الطبيب الذي سيتحايل على نقص الموارد ويكتب لمريضه علاجا على ظهر الوصفة الطبية الحكومية أو في ورقة مهملة ليحضره على حسابه الخاص من صيدلية خارجية لأنه ببساطة غير موجود. غياب الشاش والقطن والقفازات الطبية وغيرها من التجهيزات الأولية ينتهي بنا إلى حقيقة واحدة مفادها أن هذه مسرحية! تواطؤ أو اتفاق ضمني بين حكومة "عاملة نفسها بتصرف على الصحة" وتدفع مرتبات للأطباء وأطباء "عاملين نفسهم بيشتغلوا" ومرضى "عاملين نفسهم بيتعالجوا" أو راضين بصورة ما عن المنظومة؛ لكن ما يؤرقهم من وقت لآخر هو عدم التزام الأطباء أو تدهور مستواهم العلمي أو بلادتهم العاطفية تجاه المريض!
مازال العمل النقابي يجاهد مع الحكومة في الوصول إلى تسويات مقبولة فيما يخص حقوق الأطباء، وأثبت الإضراب الجزئي " الأخلاقي" الذي يستثني في القلب منه أقسام الطواريء أنه لا يمثل عنصر ضغط على الحكومة التي تتبع سياسة الجلد الثخين وهي باختصار الصبر على تلقي الضربات الموجعة وتجاهل غضب الأطباء ولكماتهم حتى يمتص الزمن هذا الغضب وتفتر الهمم وتنام الثورات الصغيرة بمرور الوقت أو بظهور عوامل إلهاء أخرى على سطح الأحداث. أمام الجلد الثخين، لم يجد الأطباء بُدًّا من استخدام مسرب جديد للتعبير عن انتقاداتهم للوضع الحالي: الفيسبووك! ثلاث ظواهر تسترعي انتباه المراقب مؤخرا: صفحة "علشان لو جه ما يتفاجئش" وحملة مساواة الأطباء بضباط الجيش والشرطة التي أطلقتها جميلة إسماعيل، وحدث "ثورة الأطباء".
تم تدشين صفحة "علشان لو جه ما يتفاجئش" ردا على زيارة مفاجئة لرئيس الوزراء محلب لمعهدي القلب وتيودور بلهارس. تفاجأ هو نفسه بعدها بالمستوى غير اللائق للخدمات الصحية المقدمة فيهما. استقطبت الحملة أعدادا ضخمة من الداعمين في وقت قصير. انبرى المشاركون يصورون كل إهمال وقصور وينشروه على الصفحة فاضحين تردي مستوى الخدمات الصحية الحكومية على مرأى ومسمع من الجميع. الإلقاء بالعساكر الصغار/ الأطباء في أتون أي مواجهة مع الجمهور لتحاشي الكلام مجرد الكلام عن جريمة الحكومة في حق الصحة والمصريين أغضب الأطباء أنفسهم، فنفخوا بحماسة وبكل ما أوتوا من قوة داعمين هذه الصفحة لعل النفخ يدفع بالقاطرة المعطلة إلى الأمام! كانت تبعات هذه الحملة قاسية علينا. نحن العاملين داخل هذه المنظومة البائسة أخذتنا المفاجأة. عملية الفلترة المتعمدة لتجميع كل هذا القبح دفعة واحدة أصاب قلوبنا بالوجع، لكن مازال الناس (من غير العاملين في المنظومة الصحية) ينظرون للحملة على أنها لهواة جمع صور القطط المتناسلة في مستشفيات مصر بكل أريحية، الصنابير المكسورة والقيشاني المتهدم والصراصير، والدم! الدم.. هذا المتناثر في بساطة في كل مكان، وكل أشكال الفوضى. ربما كان المندهشون هم الناجون منا أي الذين انتقوا لأنفسهم أفضل وأعرق المستشفيات لتلقي التدريب الكافي للانطلاق بعد ذلك بقوة التعليم الذاتي أو للخارج. إنها الحلول الفردية التي ارتحنا لها كلنا (أو أجبرنا عليها) وارتاحت لها الحكومات المصرية المتعاقبة معتقدة أنها بخلع يديها من الموضوع برمته قد نجت من مرمى المساءلة.
حملة مساواة الأطباء بضباط الجيش والشرطة تبدو وكأنها تحمل اسما خفيف الظل لأول وهلة ولكن مع قليل من التدقيق نكتشف أنها إعادة انتاج للمطالب القديمة والمشروعة المتعلقة بضرورة حصول الطبيب على راتب مرض إن لم يكن منافسا لشريحة مرتبات الأطباء في دول أخرى تتشابه في ظروفها الاقتصادية مع مصر كما أنها تعكس غضبا تجاه تمييز الحكومة دون وجه حق لقطاعات دون غيرها في الرواتب والامتيازات.
أما "ثورة الأطباء" فهي دعوة لإضراب جديد في منتصف سبتمبر القادم وتصعيد لكل ما سبق من محاولات للفت نظر الحكومة إلى الأزمة. ترفع الثورة المطالب التالية: إقالة وزير الصحة وتعيين وزير للصحة من منسوبي وزارة الصحة وليس أستاذًا جامعيًا، وزيادة ميزانية وزارة الصحة لتلبية متطلبات تقديم خدمة صحية تليق بالمصريين، وإلغاء درجات الماجستير والدكتوراه كدرجات للترقية واعتبارها درجات أكاديمية فقط أسوة بدول العالم الأخرى، والتوسع فى القبول بالزمالة المصرية للتخصصات الطبية المختلفة بحيث لا يقل عدد المقبولين بها كل عام عن 6000 طبيب، ورفع رواتب الأطباء بحيث لا يقل راتب الطبيب حديث التخرج عن 4000 جنيه أسوة بزملائهم الأقل سنًا والأقل عملاً فى النيابة والجيش والشرطة والبنوك والكهرباء والبترول، وعلاج الأطباء فى مستشفيات ذات كفاءة عالية مثل الجيش والشرطة أو إنشاء مستشفيات لعلاج الأطباء، كما طالبت "الثورة" بضرورة إلغاء شرط قضاء فترة التكليف للالتحاق بالنيابة وجعلها اختيارية وليست إجبارية، وإقراربدل العدوى لا يقل عن 3000 جنيه أسوة بالقضاة الذين لا يتعرضون للعدوى مثل الأطباء، إصدار قانون رادع لكل من تسول له نفسه التعدي على مقدمي الخدمة الطبية كذلك المعمول به فى كل الدول المحترمة والذي يغلّظ عقوبة هذه الجريمة إلى السجن لمدة 10سنوات. الالتزام بالقوانين الدولية المحددة لساعات العمل، والإثابة عن الساعات الإضافية بأجر عادل. وقف الحملة الإعلامية الممنهجة ضد الأطباء والتي تحاول من خلالها الحكومة أن تجعل من الطبيب كبش فداء في هذه المعركة بدلا من توفير الرعاية الصحية السليمة للمصريين.
نحن بصدد دمل كبير انفجر وخرج الصديد؛ فإما يتطهر وإما ينغلق على الصديد مجددا بكل مضاعفاته.. بمعنى إذا لم تنجح الحملة في الضغط جديا على الحكومة لتحسين أوضاع الأطباء والمستشفيات وإذا لم تلتفت الحكومة إلى تطوير المنظومة الصحية ككل، سيصبح الأطباء المصريون (الذين لم يخجلوا من الدعوة للإصلاح بكشف سوءاتهم) جميعا في مأزق في خضم أسواق العمل في مصر وخارجها وخاصة بعد تدويل هذه الحملات. تعليمهم، درجاتهم الجامعية، زمالاتهم، وتدريبهم، وقدرتهم على العمل في بيئات صحية جديدة تراعي سياسات وإجراءات إدارة الجودة الشاملة (يعد الكلام عن الجودة في معظم مستشفيات وزارة الصحة ضرب من الخيال والعبث) ومكافحة العدوى وسلامة المرضى، وحقوق المرضى المستوردة من الأنظمة الصحية المستقرة والمتقدمة وغيرها من أيقونات الممارسة الصحية السليمة.. كل هذا سيصبح قيد المساءلة. فشل هذه الحملات في اقتناص أي مطلب من مطالبها لا يعني سوى أن الأطباء والطب قد خسر في مصر، ونجحت الحكومة بسماكة جلدها في تذويب هذه الهبَّات ودفنها مع غيرها تحت التراب.
واقرأ أيضًا:
يوميات مواطنة ومختل عقليا في الشارع/ قراءة نقدية لمشروع قانون الصحة النفسية الجديد/ عقلاء الشارع أخطر من المجانين مشاركة