يعد البلوغ مرحلة من مراحل النمو لدى الإنسان، فكما هي مرحلة الطفولة وتليها المراهقة ومن ثم البلوغ، يصاحب هذه المراحل متطلبات يجب أن تتحقق في كل مرحلة، ومنها الإشباع الانفعالي، الإشباع النفسي، والإشباع العقلي، فإن اكتملت لن يشعر صاحبها باللاتوازن "عدم التوازن" وإن حصل العكس فإن صاحبها يوصف بصفات، أقل ما يقال عنه أنه غير ناضج، انفعاليا، أو نفسيًا، أو عقليًا، هذه الرباعية المعرفية التي تتضمن:
- البلوغ الجسمي
- البلوغ الانفعالي
- البلوغ النفسي
- البلوغ العقلي المعرفي
هي التي تشكل سلوك الإنسان في تعامله، وفي اتخاذ القرارات المهمة في حياته، وغير المهمة أيضًا، إنها بحق.. المظاهر الأولى للتكيف أو عدم التكيف عند جميع الأفراد الذين نتعامل معهم، أو نصادفهم ونَكونْ أحكامنا عليهم.
إن البلوغ بأنواعه الجسمي والانفعالي والنفسي والعقلي، هو تكامل لشخصية الإنسان، وحينما لا يحدث في واحد من تلك الأنواع فإن الإنسان يبدو وكأنه لا يملك زمام أمور حياته، ويشكل له عملا إضافيًا منهكًا، ولا نبالغ إذا قلنا يمكن أن يكون منهكًا لأي عمل تافه يقوم به.
إن اختلالات أحد الأنواع السابقة تظهر في سلوك الفرد وفي شخصيته، فالمكابرة والعناد والآراء العنيفة تخضع تمامًا لعدم إشباع متطلبات مرحلة ما من مراحل حياته، فلم يحصل الإشباع فيها، فبدى الاختلال واضحا.
إن التشنجات العقلية هي أحد مظاهر اللاإشباع في مرحلة من مراحل النمو بأنواعها، فينتج عنها مظهر من مظاهر السلوك المتنوع الذي ينعكس على تعامل الفرد مع الآخرين، ومنه اليسر الذهني، أو العسر في التعامل"التشدد" ومن تلك المظاهر أيضا هو العناد والمكابرة.
ما هو العناد وما هي المكابرة عند البعض منا؟ نحن البالغين ممن تخطت أعمارنا الخمسة والعشرون عاما، يعاني بعضا من المكابرة والعناد وهما شبيهان بالفكرة الثابتة، إذ يستحوذ على الشخص رأي واحد، وكل ظنه، وأحكامه على الأشياء تصبح أشبه بمسمار مغروس في ذهنه، يقول "بيير داكو" هذه المكابرة هي إذن رسالة وحيدة تحكمها القوانين العصبية التي تحكم التركيز والفكرة الثابتة، أي أن جزءًا صغيرًا من الدماغ في حالة العمل، وجزءًا كبيرًا منه في حالة الرقاد.
العصبية الشديدة واحدة من مظاهر التشنجات العقلية وفيها يتسمر الفرد حول فكرة واحدة، أو رأي واحد لا يقبل غيره، ويعتقد أن ما يطرحه من رأي أو اتجاه أو فكر يكون في كامله من الصحة، ويقول علماء النفس أن كل عناد يوقف عن العمل جزءًا كبيرًا من الدماغ، وأن أي رسالة أخرى لا يمكنها أن تصل إليهم، ويحق لنا أن نقارن تلك المعلومة في حياتنا اليومية حينما نلتقي بشخص يحمل مثل هذا العناد، أو تريد أن تقنع عنيدًا.
إن العنيد "رجل أو امرأة" يتشبث برأيه حتى لو خسر الآخر، مهما كانت منزلته، زوجة، أخ، صديق، زميل عمل، ومن المعلومات الدقيقة المؤكدة أيضا أن الرجل/ المرأة العنيد/هــ لا يعرف غير القليل من الأمور ويتشبث بها، فهو لا يكف عن الدوران حول المشكلة الداخلية أو التي يطرحها بعدة أوجه، ولكنها تحمل نفس المفهوم، لذا فهو لا يمتلك قدرة لغوية يستطيع بواسطتها إيصال أية فكرة وإن تحورت، ويذكرنا هذا بالشخص الفصامي الذي يتمحور حول ذاته، ويؤلف الأفكار بطريقة واحدة بداخله، ويتشنج في داخله، حتى يعجز من أن يرى أي شيء آخر سوى ذاته. ومظاهر هذا النوع من الفصام الذي يظهر في صورة اضطرابات سلوكية مختلفة قلما تأخذ صورة الفصام الدائم وعادة يكون الذهان محدود المدة كما يرى "د. محمد شعلان".
إن العناد ينشأ منذ الطفولة ومن بداية الرضاعة حينما يتمسك الطفل بالثدي بصفته المصدر المريح للغذاء بدون جهد، ومع بداية إدخال الأطعمة الأخرى فإنها قد تبدو له في البداية بمثابة الجسم الغريب فيرفضها الطفل، إلا أنه في نفس الوقت وخاصة في بداية ظهور الأسنان، يرغب في أخذ الأشياء الأخرى بالفم ولكنه بعناده يمتنع ومن ثم ينسحب الأمر على العملية التالية وهي الفطام التي تحتاج بدورها إلى توازن دقيق بين رغبة الطفل والأم في الإبقاء على الثدي والرغبة المضادة في التخلي عنه تدريجيًا.
ويقول "د. محمد شعلان" إذا كان هناك استعجال أو تأخير لهذه العملية فإن الاضطرابات المصاحبة للفطام ربما تتفاقم وتؤدي إلى اضطرابات في الشهية أو إلى قيء أو سوء هضم فضلا عن توليد وتكوين العلاقات السادومازوخية بين الأم والطفل، فها هو الطفل يتمسك بثدي الأم بأسنانه محافظًا عليه فتتألم الأم وتسحبه مما يشعره بالإحباط والخوف عليه فيزداد تمسكه به مرة أخرى مما يزيد الألم في ثدي الأم، وهكذا تنشأ بداية العناد وسلوكيات أخرى غير مقبولة اجتماعيًا في البلوغ، مثل المكابرة والتألم مع الكبت العالي الذي يؤدي إلى الاحتقان النفسي، الامتثال وقبول الأفكار المتطرفة بسهولة، نشوء التعصب ورفض الآخر.
خلاصة القول أن الميل الشديد للعناد والمكابرة هو تعبير عن أسباب نفسية عميقة، منها رفض الأم وثديها، وهو إحساس ناتج بأن أمه ترفضه في المقام الأول، أو قد نجد نزعات عدوانية تجاه الأم تجعله يريد أن يقرض الأشياء الصلبة التي يستطيع أن يتحكم فيها ويمتلكها على خلاف ثدي أمه الذي يسحب منه إذا عضه، فالشخص العنيد شخص يحب التملك، شخصيته تميل إلى الأنانية منها إلى تقبل الآخر، مهما كانت منزلة الآخر، حتى وإن كانت أمه، أو زوجته. لذا نتفق مع "د. نيفين زيور" بقولها تخضع رغبات الطفولة لتثبيت قوي في اللاشعور.
واقرأ أيضًا:
البناء النفسي في الإنسان، المعني والمبني / أفكاري .. مزقتني؟ / النفس.. دوامة الحياة غير المنتهية / الندم.. مدخل سيكولوجي لمحنة الذات / التربية ومشكلة التعصب!!