في نوفمبر الماضي صرَّح الدكتور محمد غنيم، عضو مجلس علماء مصر، أن أعضاء المجلس عرضوا على الرئيس عبد الفتاح السيسي، إنشاء لجنة لتنمية الأخلاق والضمير وتعزيز قيم العمل والانتماء. قوبل هذا الاقتراح بجدل واسع بين فريقين: مؤيد يؤكد على انهيار منظومة الأخلاق في المجتمع وضرورة التدخل لمنع هذا الانهيار، ومعارض يرى ضرورة الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والصحة والتعليم أولا. لكن الجدل مرَّ دون إثارة السؤال الأعمق حول ماهية الأخلاق والضمير، وكيف سننمي شيئا لا نستطيع الإحاطة بماهيته؟ وإذا اعتبرت الضمير الأخلاقي حكما ذاتيا صادرا عن العقل به نعرف الصفة الأخلاقية لما فعلناه أو سنفعله، أو نفعله حاليا، أو قد نفعله مستقبلا، فهل يمكن استزراع وتنمية الضمير فعلا من قبل لجنة ما؟ ما هي الجهة العليا التي ستقيس ما استعصى علينا تصنيفه (صحيحا كان أو خاطئا) على مسطرة الأخلاق؟ ما هي المصادر العلمية المعتمدة لدى اللجنة لفرز المواقف الأخلاقية تحت بنديّ (نعم) و(لا) الذين لا ثالث لهما؟
العالم الأمريكي لورانس كولبرج Lawrence Kohlberg وضع نظرية شهيرة للتطور الأخلاقي ربما تساعدنا على تقريب مصطلح الأخلاق للأذهان. افترض كولبرج ثلاث مراحل يمر بها المرء حتى تتكون لديه مبادئه الأخلاقية. المرحلة الأولى من التطور الأخلاقي هي مرحلة ما قبل الأعراف والتقاليد أو أخلاق الخضوع والطاعة العمياء للسلطة تجنبا للعقاب يليها مرحلة أخلاق الفردية والأنانیة، ويسودھا الغرض وتبادل المصالح ثم نأتي للمستوى الثاني؛ سيادة التقاليد والعرف حيث يتحدد الصواب والخطأ طبقا لمسايرة الأفراد بعضهم بعضا حتى ينالوا الرضا من الجماعة الصغيرة التي يعيشون وسطها، أما المرحلة الثالثة وهي أرقى مراحل التطور الأخلاقي حين يصل الفرد إلى ما يُعرف بعالمية المباديء الأخلاقية حيث ينجح المرء في تكوين مجموعة من المباديء الأخلاقية الخاصة به والتي قد تتوافق أو لا تتوافق مع أعراف الجماعة أو القانون وتنطبق على الجميع كحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، وعليه يجب أن يكون الإنسان مستعدا للدفاع عن مبادئه الأخلاقية هذه أمام بقية المجتمع حتى لو اضطر للوقوف ضدهم كي يدفع ثمن إيمانه بما لا يؤمنون به وقد تكون التبعات هي النبذ المجتمعي أو السجن.
قلة هم من يبلغون ذلك المستوى بكل تأكيد وربما كثيرون في سجون النظام. قلة من يعرفون أن الخضوع للقوانین يكون لرفاھیة ومصلحة الجمیع لا مصالح طبقة معينة ولحماية حقوق الجمیع وليس دفاعا عن مصالح غير مستحقة لجماعة مهنية محددة. ما من شك بأن الوضع الراهن المأزوم لثقافتنا يعوق تطورنا الأخلاقي لحد كبير. نحن بإزاء مجتمعات تشجع التوافق معها على حساب القيم المطلقة التي يتنادون بها أحيانا إذا خدم ذلك التوافق مصالحهم وعلى حساب عالمية المباديء الأخلاقية. نحن إيضا بإزاء سلطة تجعل الترهيب ببطشها ضميرا أعلى للمصريين يتحكم في اختياراتهم الأخلاقية، وبإزاء نخب "مُسَيَّسَة" تريد أن تجعل نفسها قيّمة على الاختيارات الأخلاقية لمن تتصور أنهم أدنى منها وأن عقولهم قاصرة عن اتخاذ القرارات السليمة.
فيديو أحمد مالك وشادي وهما يقومان بإهداء مجموعة من الواقيات الذكرية المنفوخة كالبلالين في الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير 2011 أعاد الجدل الدائر حول الأخلاق والأدب وقلة الأدب للسطح مرة أخرى بعدما رأى قطاع من المصريين هذا الفيديو مؤشرا على انهيار الأخلاق والتعليم و... . لا يستطيع المرء الدفاع فنيا عن الفيديو لكن أبواق النظام هي من أسبغت عليه هذه الأهمية في الأساس حين افترضت أن الكيانات الأمنية للدولة يمكن أن تُهان بالإيحاء الجنسي لفيديو مثل هذا؟!! مرحلة ما بعد الفيديو هي المرحلة الأهم لأن الفيديو حرك الرأي العام بعنف كما لم يفعل مقال ولا برنامج توك شو ولا تقارير حقوق الإنسان وتجاوز كونه "اشتغالة" رأي عام جديدة إلى آفاق جدلية أعلى كالمعنى الفلسفي للأخلاق سواء كانت نسبية أو مطلقة أو بمعنى آخر هل هي مجردة أو من الممكن أن يعاد تعريفها طبقا لظروف وأهواء المجتمع؟
النقطة الأخيرة تحديدا لم يقف عندها جدل لجان تنمية الأخلاق وظل الصراع محتدما بين فريق الأخلاق والأدب برعاية قطاع من المصريين انضم إليهم بعض المُمثلين (كهشام سليم وحسن يوسف) والمُنْحَازين للطبقة "الأمنية" في البلد أيضا (من رجال جيش وداخلية وغيرهم) وكلهم يرون أن الأخلاق هي طاعة أولي الأمر في المقام الأول وفي "الطهارة اللفظية"، وبين مصريين آخرين يحاولون إعادة تعريف الأخلاق في سياق أكثر شمولية يضع العدل والحرية والأمن في القلب من تلك الأخلاق. ثبت أن معضلة الفيديو ذات طابع أخلاقي تجلى فيها الصراع بین الانصیاع للقواعد الاجتماعیة (قانون المجتمع) وأوامر السلطة من ناحیة، وبین الحاجة البشرية لتحدي الظلم وكذلك للتعبير عن النفس وتحقیق رضاها من ناحیة أخرى. نفس المعضلة الأخلاقية تواجه شباب ألتراس النادي الأهلي الذين احتفلوا منذ عدة أيام في استاد مختار التتش بذكرى مذبحة بورسعيد في الأول من فبراير 2012 حين توفى ما يزيد عن سبعين فردا من مشجعي النادي الأهلي بعد مباراته مع المصري. كانت الأعداد هائلة ومتوحدة فيما يشبه روح المظاهرة السياسية التي أسقطت ببساطة قانون التظاهر المشبوه؛ حقيقة لا يمكن إنكارها في ظل تسييس الألتراس بحكم الأوضاع السياسية التي جعلت لهم ثأرا ساخنا عند السلطة.
هتافات الألتراس التي لا سقف لها وطالت أكبر الرؤوس حتى أصغرها من المشير طنطاوي إلى رجال الداخلية قوبلت بنفس الموقف الأخلاقي الرافض لانهيار قيم توقير الكبير/ الأب وتقديس رؤوس السلطة وعدم التعدي لفظيا عليهم لكن نجاح الفعاليات وخصوصا بعد دعوة الرئيس السيسي الألتراس للمشاركة في التحقيقات بخصوص المذبحة أخرس إدعاءات الأخلاق والضمير التي حصرتهما في التطهّر اللفظي من بذاءة السباب. سكون مؤقت لكنه لن يخرس الجدل تجاه المعضلات الأخلاقية التي ترتدي السياسي ونواجهها كل يوم.
إذا سلمنا بأن الأخلاق مطلقة فلن نستطيع ببساطة تفسير التباين بين الموقف الرسمي المُغْرِض من المعضلات الأخلاقية الراهنة التي تشغل الرأي العام وبين موقف شعبي آخر يقف على النقيض منه يحاول الدفاع عن أبسط حرياته وحقوقه؛ الأهم أن ذلك سيستتبع التسليم بوجود هيئة عليا ما تمتلك وحدها الـ"صح" المطلق، وهو أمر خطير له سيء الأثر على مستقبل الحريات.
إذا سلمنا بنسبية الأخلاق فسوف نرى ثوابت الأمة مسألة تحددها الثقافة المجتمعية السائدة التي تعاني كثيرا من التشويه بسبب إزاحة النخب المُفكرة والمتجرِّدة مستقلة الرأي في خضم أوضاع اجتماعية رجراجة، وتصعيد النخب الطفيلية المُسَيَّسَة التي لا تنتصر للأخلاق وعالمية المباديء وإنما تنتصر لمصالح طبقة ضيقة من المصريين هي رجالات النظام والمستفيدين منه جاعلة من العدالة الاجتماعية المُتسرعة قَيِّما على سلوك الآخرين.
واقرأ أيضًا:
قراءة نقدية لمشروع قانون الصحة النفسية الجديد/ عقلاء الشارع أخطر من المجانين مشاركة/ القطاع الصحي.. سلامتك!