تصاعدت ألسنة الدخان الأبيض والأزرق ورقصت كفرقة بالية فوق رؤوس الجالسين على طاولة البرتيتة. امتلأت الكؤوس المرة تلو الأخرى واختلط رنينها بأصوات الضحك تارة وبسباب الخاسرين تارة أخرى.
أولاد وبنات وشيوخ على أوراق اللعب.. لا تدري هل تاهوا وسط أرقام الكوتشينة أم وسط الملايين التي يحكي عنها اللاعبون.
- ها يا "عبد الجبار"؟ ما آخر أخبارك؟
أطلق "عبد الجبار" سبابه وانطلق يلعن البورصة التي خسر فيها ملايين لم يتعب في جنيها. واستمر في وصلة أخرى من السباب كانت من نصيب الشباب "الفاضي" الذي يتظاهر أو "يرغي" على "الفيسبوك" مسببا تراقص البورصة وهرب المستثمرين.
- خربوا بيتنا ولاد ال *#$*&@.. النفع الوحيد الذي عاد علي هو شحنة الألعاب النارية التي استوردتها على حسهم..
ضحك "شاكر" حتى تقافز كرشه المتدلي أمامه وقال بصوت أجش دمره التدخين والخمر:
- تستاهل يا "عبدالجبار" .. طالما نصحتك: "بلاش البورصة".. لماذا أضع نقودي تحت رحمة بعض الشباب "الفاضي" أو أي إشاعة تخرب البلد. قلت لك تعلّم من خطئي ولكن لم تسمع كلامي.
تسابقت قطرات العرق على جبين "سيد جمعة" رغم برودة الجو، كان يخسر للجولة الثالثة هذه الليلة.. وبدأ يشعر بالقلق لأن عليه شراء الطقم السوليتير الذي طلبته صديقته الليلة، "خبطتان" في الرأس ستؤلمانه الليلة. وارتجف صوته وهو يسأل:
- وماذا فعلت بعد أن خسرت في البورصة يا "شاكر"؟
لمعت عينا شاكر واضجع في كرسيه فخورا بذكائه:
- أبدا..شحنة لبن فاسدة من الصين.. اشتريتها بملاليم، وطبعت ملصق بتاريخ صلاحية جديد وأنه صنع في دولة أوروبية.. وبعته بأضعاف أضعاف ثمنه.. ضربة معلم عوضتني الخسارة في لحظة.
رمى "إيهاب الغول" ورقه على الطاولة بانتصار ليكسب الجولة بثلاثة صبيان متوّجين، وقال وهو يحتضن الأموال على الطاولة ويسحبها نحوه:
- الظاهر أن الأولاد فعلا أقصر طرق للثروة.. أنا أيضا فتحت قناة تلفزيونية للأطفال.. بعض الأناشيد والأغاني الدينية والبرامج السخيفة لتترك الأمهات أولادها طول اليوم أمامها..
ارتفع حاجبا "عبد الجبار" دهشة قائلا:
- قناة أطفال؟؟ وأناشيد دينية؟؟ أنت يا "إيهاب"؟!!
قهقه "إيهاب" طويلا حتى تحشرج صوته.. سعل دخانا قبل أن يجيب:
- إياك أن تفهم خطأ.. الفكرة أن يرتبط الأطفال بالشخصيات، فتطلق شركاتي منتجات بأسماء شخصيات القناة... شيبسي.. حقائب.. ألعاب.. كل ما يحبه قلبك. الأطفال تلح والأهالي تجبر على الشراء..
- أيها ال*&#%^$& .. صدق من سمّاك "غولا".
- يا سيدي "Business is Business". من لا يملك نقودا عليه ألا ينجب أطفالا يحرمهم.
تصاعدت ضحكاتهم كأنها تعزف موسيقى شيطانية ترقص عليها ثعابين الدخان فوق رؤوسهم. ثم التفتوا جميعا نحو مصدر ضحكة أنثوية مائعة ليجدوا مغنية مشهورة تتمايل وسط معجبيها. ليقول "زاهر" رجل الأعمال المشهور:
- هذه دجاجتي التي تبيض ذهبا، لو رأيتموها منذ 3 سنوات فقط.. كانت فتاة أقل من عادية تغني في الأفراح الشعبية. ببعض الهندسة والنفخ والكثير من السيليكون، أصبحت محبوبة الشباب، فيديو كليب ثم إعلان ثم فيلم، والأسبوع الماضي بدأت أعلن عن البرنامج التلفزيوني الذي ستقدمه.
يسأل "عبدالجبار" : - برنامج ؟؟ كيف وهي "لدغة" في حرفين؟ من قلّة المذيعات؟
- يا عزيزي مؤهلاتها لا تكمن في ألفاظها.. المذيعات لن يجلبن كم الإعلانات التي جلبتها هذه "المزّة". هيا كفانا لعبا الليلة.. اليوم عيد ميلاد زوجتي التي دعت المدينة كلها في منزلنا.. ولو علمت أني هنا ولست في المكتب سيكلفني الموضوع هدية محترمة لأصالحها..
تنفس "سيد جمعة" الصعداء لانتهاء اللعب.. لم يكن مستعدا للخسارة أكثر، وكان أجبن من أن ينسحب ويتعرض لسخريتهم.. انسحب صامتا يتحسس بطاقة "الفيزا" في جيبه والتي ستصرخ ألما في محل المجوهرات. ركب سيارته وانطلق متسائلا: "لماذا تحب النساء الماس لهذه الدرجة؟".
وتفرق الباقون ما بين متحدث في الهاتف المحمول ليتابع أعماله، أو راقص مع فنانة السليكون، أو جالس ليغني ويصفق.
وتوجه عم "سلامة" إلى طاولة البرتيتة يلم الكؤوس وينظف المكان.. سارحا يحاول تقسيم ما بقي من نقود من مرتبه ما بين ابنته الصغيرة التي تريد اللعبة التي شاهدتها في التلفزيون، وما بين الملابس التي طلبها ابنه المعتقل.. وتنهد وهو ينظر من زجاج النافذة لتلمع عيناه بانعكاس ألعاب نارية بعيدة.. وترغرغت الدموع التي جاهد لحبسها.. فطليقته تتزوج اليوم من رجل آخر.
واقرأ أيضاً:
يا رجلا / حبٌّ مفقود / لي ولك / مطر / سر / أنا وأنت / الليالي / أمس واليوم / باناديلك / الصديقتان