على الرغم من وجود حمير كثيرة في الحظيرة إلا أن العمدة يفضل هذا الحمار على وجه الخصوص, ربما نوع من التعود, أو نوع من التفاؤل به, أو سر آخر لا يعلمه أحد. وحمار العمدة من سلالة أصيلة في الحمير, وتتميز هذه السلالة بقوة التحمل والصبر وقلة الحاجة للطعام, فأي شيء يكفيها, وربما هذا أحد أسرار تمسك العمدة بهذا الحمار الذي يكتفي بأي طعام يلقى إليه وينام في أي مكان, والعمدة بطبيعته بخيل على الرغم من ثرائه الفاحش.
ومن طول العشرة بين العمدة والحمار أصبح هذا الحمار لا يرضى بأن يمتطيه أحد إلا العمدة نفسه فإذا حاول أحد أقاربه أو معارفه ركوبه يقوم الحمار بعضه أو ركله أو إسقاطه من فوق ظهره. وفي يوم من الأيام أقام شباب القرية رهانا على من يستطيع أن يمتطي حمار العمدة وتطوع الشجعان منهم ليثبتوا قدرتهم على ذلك, وبعضهم كان من الفرسان المعدودين الذين يركبون الخيل ويفوزون في مسابقات كثيرة للقفز على الحواجز, وبعضهم مارس رياضة مصارعة الثيران, فكيف له يعجز عن امتطاء حمار.
وجاء يوم الرهان واستطاعوا بحيلة ذكية أن يأتوا بحمار العمدة من حظيرته, وراحوا الواحد تلو الآخر يحاول أن يمتطيه دون جدوى, إذ كان الحمار من النوع "الحرون" الذي يرمي كل من يحاول الاستقرار فوق ظهره. وفي آخر النهار عاد الحمار إلى حظيرته, وعلم العمدة بقصة الرهان وفشل شباب القرية في امتطاء حماره فشمت فيهم وشعر بالسعادة وطردهم من القرية حتى لا يتجرأوا بعد ذلك على حمار سيدهم.
وانتشرت الحكايات في القرية والقرى المجاورة عن سر ارتباط العمدة بحماره والعكس, فقال بعض الناس إن الحمار تعود على العمدة ولم يتعود على غيره, وقال البعض الآخر بأن العمدة "ركّيب" قديم محترف وأنه يعرف كيف يركب الحمار "الحرون", وعلى الرغم من أنه يضربه ويقسو عليه, ويضن عليه بالطعام إلا أن طريقته الحنونة في الاقتراب من الحمار تجعل الأخير "يحن" و"يطاطي" حتى يركبه العمدة ويستقر على ظهره. وقال فريق من الناس إن الحمار يشعر بالفخر للانتماء للعمدة, ويتباهى على سائر الحمير بأنه يحمل سيد الناس وكبير القرية.
وفي السنوات الأخيرة استجدت مشكلة, وهي أن العمده أصبح طاعنا في السن وأصابته الكثير من العلل, وهو يحاول أن يبدو قويا متماسكا أمام الناس بل ويبالغ في إظهار قوته حتى لا يطمع أحد في العمودية التي توارثها أبا عن جد, ولكنه مع ذلك أصبح غير قادر على اعتلاء ظهر الحمار, كما أن وزنه صار ثقيلا بحيث لا يستطيع شخص واحد أو حتى شخصين أن يحملاه على ظهر الحمار, وهنا اقترح "شيخ الغفر" أن يخصص مجموعة من الأشخاص الأقوياء ليرافقوا العمدة بصفة مستمرة ليحملوه على ظهر الحمار وأسماهم "الركّيبه"؛
وصارت هذه وظيفة ثابتة في دوار العمدة ينتقى لها بعناية ذوي العضلات المفتولة ويشترط فيهم حبهم وولاءهم للعمدة وأن لا ينشروا أسرار بيت العمودية وأن يطلقوا من وقت لآخر قصصا عن كرامات العمدة وكيف أنهم حين كانوا يصحبونه في يوم شديد الشمس والحرارة ظللتهم غمامة منذ خرجوا من القرية حتى عادوا إليها وأنهم حين تركوا العمدة وعادوا إلى بيوتهم اختفت الغمامة تماما.
وقالوا أيضا بأن سربا من الجراد كان يحوم حول القرية وكاد أن يفتك بزراعاتها لولا أن العمدة أشار بعصاه نحو الجراد فحول مساره بعيدا عن القرية. وقالوا أن العمدة إذا دخل بقدمه حقلا فإن المحصول يزداد وتبتعد عنه الآفات والديدان والقراد, فأصبح الناس يتفاءلون بالعمدة ويتبركون به ويدعونه لمباركة حقولهم على أن يكون له قسط من المحصول أو يتخلون له طواعية عن مساحة من أرضهم.
وكان العمده أيضا يتقاضى قطعة من الأرض إذا ساعد بقدراته وكراماته على شفاء مرضى القرية, ولهذا اتسعت أراضي العمده وتجارته, ولم يعترض غالبية أهل القرية على ذلك إذ هم يعتبرون أن عز العمدة هو عز للقرية, وأنهم يرفعون رؤسهم بين سائر القرى بوجود هذا العمده القوي المبروك بينهم.
واقرأ أيضاً:
الشيخ عبيد/ مشاعـر مطَّلَقـــة/ النهر الراكد/ الرهينة/ شيكاجو (أزمة المغترب عن وطن مضطرب) 2/ مناظرة لم تتم/ أحبتنا... بيانا/ ثورة يناير