شورى مهببة
بلغ "نجم" (أو أبوكو نجم كما يطلق عليه أهل القرية) من العمر أرذله وأصبحت ذاكرته لا تسعفه كثيرا وضعف بصره وسمعه حتى لم يعد يميز بين الأشخاص، ومع هذا ما زال أهل القرية يستعينون بحكمته ويعتبرون مشورته شيئا هاما في حياتهم فهم لا يقطعون أمرا دون الرجوع إليه فقد كان ممن حاربوا الترك والفرنساويين والإنجليز في شبابه وله عزوة كبيرة في القرية، وهم يتناقلون جيلا بعد جيل قدرته الفائقة على حل المعضلات، بل وينسبون إليه الكثير من الكرامات والبطولات.
وهو خبير في حل المشكلات العويصة، فمثلا يتذكرون يوم أن أدخل الجمل رأسه في الزير (إناء فخاري كان يستخدمه أهل القرى لتخزين الماء وتبريده) ولم يستطع الجمل أن يخرج رأسه منه نظرا لضيق فوهة الزير وتغير زاوية ميل رقبة الجمل، فقال لهم عقلاء القرية عليكم باستشارة "أبوكو نجم"، فذهبوا إليه وحكوا له الموقف المتأزم، فأشار عليهم بقطع رقبة الجمل حتى يستطيعوا إخراج رأسه من الزير، فذهبوا وفعلوا ذلك، ولكن رأس الجمل سقطت في قاع الزير ولم يتمكن أحد من إخراجها منه، فعادوا إليه، فأطرق برهة ثم لمعت عيناه بالحل: "اذهبوا فاكسروا الزير وأخرجوا رأس الجمل" ... وذهب أهل القرية فكسروا الزير ليخرجوا رأس الجمل ويطوفوا بها في أنحاء القرية وهم يغنون ويرقصون حتى الصباح ويشيدون بمشورة "أبوهم نجم".
وجاءوا له بفتاة صغيرة منذ عدة سنوات تشكو بمرض في عينها فأشار عليهم بوضع الكحل في عينيها سبع مرات في اليوم، ولما فعلوا فقدت البنت بصرها، فقال أهل القرية "قضاء وقدر" و"البنت أخدت نصيبها"، وقال أهل القرى المجاورة "جه يكحلها عماها"، وصار هذا مثلا شائعا حتى اليوم.
ومنذ فترة قصيرة وجد شاب من قرية مجاورة مقتولا في أحد مزارع قرية "أبوكو نجم"، وانتفض أهل القرية المجاورة يطلبون القصاص والانتقام من أهل القرية لو لم يدلوهم على القاتل ويسلمونهم إياه، وحاول أهل القرية نفي صلتهم بمقتل هذا الشاب، ولكن أهل القرية المجاورة أصروا على مطالبتهم بالقصاص، وهنا ذهب أهل القرية لـ "أبوهم نجم" يستشيرونه كالعادة، فقال لهم: " قولوا أن الثور نطحه فمات"، ففعلوا ما قاله ولكن أهل القرية المجاورة لم يصدقوا إذ وجدوه مذبوحا ولم يكن منطوحا ثم أن القرية ليس فيه ثور؛
فعاد أهل القرية إلى "أبوهم نجم" يسألونه المشورة مرة أخرى، فأطرق للحظات ثم لمعت عيناه كالعادة وقال لهم: "اقتلوا عشرة من أبناء قريتنا وقولوا لهم بأننا عرفنا القتلة وهم من المارقين في القرية وقتلناهم"، فذهبوا فعلا ونفذوا المشورة ولكن أهل القرية المجاورة لم يصدقوا هذه الرواية، وظلت الخصومة بين القريتين لسنوات طويلة.
وفي صباح يوم من الأيام سمع أهل القرية بالمنادي يعلن وفاة "أبوهم نجم" فانطلقوا إلى شوارع وحواري القرية
يبكون ويولولن ويقولون لبعضهم البعض "ياويلكو من غير شور أبوكو نجم".
واقرأ أيضاً:
شيكاجو (أزمة المغترب عن وطن مضطرب) 2 / مناظرة لم تتم / أحبتنا... بيانا / ثورة يناير / حمار العمدة