العبث بالعقل: الحلقة1
"لا تظن أنك حين تحرر عقلك بأنك تجعله حراً حقيقةً، فربما تكون قد أرسلته لسجنٍ جديد" يوسف مسلّم.
تحدثنا في الحلقة الماضية عن اليقظة وموادها المعرفية، وضربنا المثال التالي: لو أراد أحدنا أن يسير في طريق مستقيم من نقطة أ الى نقطة ب، لكن خلال بداية مساره انحرف بزاوية حادة بسيطه بمقدار ١٠ درجات على سبيل المثال فسيجد ان الطريق الذي سلكه اوصله للنقطة ج بدل النقطة ب، فأي انحراف ولو بسيط في المسار سيجعل الشخص يصل لمكانٍ آخر، وهذا ما يحدث لعقولنا، فعندما تُحرّف اساليب وعينا وادراكنا ومقاييسنا العقلية فسوف نصل دائماً للنقطة ج بدل النقطة ب، وهذا سيؤثر لاحقاً في اساليب طرحنا ومباديء حياتنا.
في حلقة اليوم سنستخدم بعض الاستعارات والتشبيهات لتوصيف أساليب تحريف الإدراك والمعرفة، فعندما تريد معرفة أي شيء بعمق فالواجب أن تعرف ضده أيضاً لتلم بمعرفة شاملة وأعمق.
إن محرفات الإدراك والمعرفة يمكن وصفها ضمن أربعة مباديء أساسية كما يلي:
(١) مبدأ الرؤية في المرآة:
فالواجب بالمرآة أن تعكس الصورة الواقعية لما يظهر فيها، لكن الرؤية من خلال مرآة محدبة أو مقعرة ستجعل للواقع انكساراً مشوه الجنبات والوسط، فهنالك دائماً أبعادٌ أخرى للتفسير للظواهر، وقد تكون هذه أبعادا مقعرة أو مسطحة، ومثال ذلك عندما يتحدث البعض عن ما يسمى (قانون الجذب) فيقول أن مجرد التفكير بأمر ما سيجذب هذا الأمر لك، فهذه رؤية مقعرة تماماً، فهنالك مرآة صحيحة نرى فيها حقيقة ما يسمى (قانون الجذب) فالحقيقة أن إبقاء أي أمر في حيز تفكيرك - وحيز التفكير يتسع عادة من ٥ إلى ٩ أمور أساسية - وبالتالي فإبقاء أمر في حيز التفكير يجعله من الأولويات في حياتك، ويؤدي لانشغال بالك فيه، مما يوفر الدافع لعمله وتحقيقة وتحَّيُن الفرص لعمله ومتابعته، فمرآة الواقع بأنك أنتَ من ينجذب له وليس هو الذي ينجذب لك.
(٢) مبدأ الطائرة الورقية ومدار الصاروخ:
فالطائرة الورقية تملك الخفة اللازمة للصعود في كبد السماء، بحيث توظف قواعد الفيزياء وديناميكية الهواء لتعلو وتصعد، والصاروخ ينطلق في الفضاء ضمن قواعد أساسية توظف فيها قواعد الفيزياء - قواعد نيوتن غالباً - فيبقى الصاروخ ضمن فلك ومدار، وهذا المبدأ يعني أنه في حين يدعوك البعض لتحرير العقل وإطلاقه في الفضاء الرحب الفسيح للفكر والتفكير، فهل يطلقون هذا العقل في الفضاء ومدارات التفكير دون قواعد أساسية؟ فلو طارت الطائرة الورقية دون خيطها لذهبت بعيداً وتحطمت، ولو انطلق الصاروخ دون مدار صحيح لتحطم هو الآخر، فيا ترى هل من الممكن أن يضيع العقل لو أطلقناه للفضاء دون حدود لتفكيره؟ ودون قواعد لمداره، ودون فلك واضح لمسيرة؟ فحتى التفكير الإبداعي له قواعد وأسس، وحين يقولون حرر عقلك فما نراه منهم أنهم يحررون الهوى -هذا سنتطرق له في المبدأ الرابع- فيتقيد العقل بالهوى، لأن تحرير العقل دون قواعد وحدود ومدار يعني تشتته وضياعه في مدارات الأهواء والشكوك.
(٣) مبدأ محدودية العقل:
يثق الناس بمدى اتساع قدرات العقل البشري، لدرجة المبالغة في بعض الأحيان، لكن كم من درجة ضوئية أو أشكال إشعاعية لا يراها الإنسان، مثلاً الاشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية، وكم من مستويات لدرجات صوتية لا يسمعها الإنسان، مثال ذلك الترددات الصوتية غير المسموعة، وكم من الممكن أن تختلط إحساسات الشم أو المذاق لبعض المواد فلا يميزها إدراك الدماغ؟ إن الحواس هي أدوات إدخال معلومات العالم الخارجي ليتم إدراكه، ومع ذلك فهذه الحواس لها حدود وإدراك المحيط له حدود، إذاً "فحدود الإدراك البشري" قاعدة أساسية في فهم ما الذي نتوقعه من دماغنا، وبما أن العقل يتبع وظيفياً للدماغ، فالعقل أيضاً محدود بحدود إذا لم نفهمها ونعيها فسوف نسيء استخدام هذه الوظائف وفهمها، وبالتالي سنعطي قدرات للعقل أكبر مما فيه حقيقةً.
(٤) مبدأ الهروب للسجن:
يطلب البعض أن تحرر عقلك، كما قلنا في آخر المبدأ الثاني، فتظن أنك تهرب من قيود وسجن التفكير، دون أن تنتبه بأنك تقع أسيراً في سجن لعقلك ضمن قيود الهوى، فغالباً ما يرافق إطلاق العقل بلا قيود الوقوع في سجن الهوى والشهوات، فالعقل مكابح الهوى، وتعطيل هذه المكابح يعني إطلاق الهوى، يقولون لك شك بأي شيء، ويقولون لك لا تثق بأي شيء، فتعتقد أنك تحرر عقلك بينما أنت تحبسه في هواه.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة3
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر