العبث بالعقل : الحلقة5
"في أروقة الوعي وممرات البديهة تتشابه الطرق، وإذا حدث وتهت فيها، قد تخالف نفسك، لدرجة أنك قد تصبح كعدوك اللدود" يوسف مسلَّم.
كنا قد بدأنا الحديث عن اليقظة الذهنية وتحريف الوعي، وقلنا أن هنالك أربعة مباديء لذلك، ثم قمنا بزيادة التوضيح لأول مبدأ وقسمنا الأساليب التابعة لهذا المبدأ لأربعة أساليب أيضاً، وأولها أسلوب تزييف الثقة، وسنتحدث اليوم عن الأسلوب الثاني وهو ممر البدهيات.
إن ممر البدهيات - وقمت بتصويب الاسم بحسب الصحيح في اللغة العربية، غاية في الخطورة، ومن أجدر الأمور التي من الواجب التنبه لها، وبدهي في اللغة العربية تقال لكل ما هو: بيِّن، جليّ، مُسَلَّم به لا يحتاج إلى دليل، وعندما نقول مِنْ البدهيّ: فتعني من الواضح، لكن هذا الوضوح قد يكون عبارة عن صورة في مرآة مقعرة أو محدبة، تخاله صحيحاً، وتسلِّمُ قطعاً بصحته، وما هو إلا زيفٌ وخداع، تم صناعته أو التلاعب فيه ليصبح من أسس ومسلمات تفكيرك ووعيك وقناعاتك.
ولتبيان ذلك بوضوح أكبر سنتحدث عن عدة أبعاد للبدهيات، وأهمها:
- صناعة البدهيات.
- تحريف البدهيات.
- زعزعة البدهيات.
وسنبدأ أولاً بصناعة البدهيات، فتخيل معي أن بعض ما نعتبره بدهياً ومسلماً به ما هو إلا كذبة أصبحت جزء من وعينا، إن صناعة البدهيات من أكثر الصناعات التكتيكية الحربية استخداماً، فلم يعد هدف أي احتلال فقط احتلال الأرض، لكن أيضاً احتلال مساحات شاسعة من الوعي واليقظة، وقد قال شاعرٌ منشداً ذلك:
إحذر أن يحتل عدوك روحك،،،
انتهت الحرب إذا ما احتل عدوك روحك،،
فلم يطور عدونا صواريخة النووية فقط، لقد طور حرباً يحتل فيها الوعي والانتباه حتى، فالحرب النفسية غدت الآن أقوى ترسانة لاحتلال الوعي وتدمير الفكر والثقافة والهوية.
وفي صناعة البدهيات تأخذ كلمات أو جمل معينة دلالة ومعنى مسلَّم به، ومن بعض الأمثلة على ذلك:
- عقدة المؤامرة: وهي من المصطلحات التي درجت على ألسنة الناس والمثقفين خصوصاً منذ الثمانينات، وأصبحت مصطلحاً كلما تحدث أحدنا عن مؤامرة ضد العرب أو المسلمين واجهك أحدهم بهذا المصطلح متهماً إياك بأنك تعيش وهماً وأنك تعاني - وبحسب رأيك في أي قضية- من درجة ما من عقدة المؤامرة، والتي أصبحت كتشخيص طبي لحالة الوعي ولا يحتاج لمتخصصين لتشخيصة، وانتشرت على ألسنة ومعرفة الناس كمعرفتهم لحالة الرشح والزكام، إن اصطناع هذا المصطلح الذي بعد ذلك صار بدهي بأننا قوم معقدون نتوهم المؤامرة جعلنا نصدق هذه الكذبة، فمنذ اغتصاب فلسطين حتى وفاة الطفل إيلان غرقاً على شواطئ أوروبا لم تدر ضدنا أي مؤامرات تذكر، وما زال البعض حتى اللحظة تحتل وعيهم كلمة (عقدة المؤامرة) والتي أصبحت بدهية ولا تتقبل عقولهم غير ذلك، فالمؤامرة هي وهم بالنسبة لهم، هذا ما أصبح مسلماً فيه بعد زراعة هذه الأكذوبة والتي هي أشد انفجاراً من العبوات الناسفة، فهي الناسفة للوعي والواقع.
اما الشكل الثاني وهو تحريف البدهيات فمن الأمثلة عليه أيضاً،
- مصطلحات التطبيع: وهذه المصطلحات تصنع بهدف تحريف صور موجودة لتأخذ تصورات ومعاني أخرى، ثم تفرض في الإعلام والكتب وحتى المنهاج التربوي، حيث أن هذه المصطلحات تصبح بدهية وبديلة وذات دلالة مختلفة عن واقعها الحقيقي، فمثلاً استخدام مصطلح (مشروبات روحية بدل خمور)، أو (المثلية بدل الشذوذ) أو (جيش الدفاع الإسرائيلي بدل قوات الاحتلال الصهيوني) وهذا ما جعلني في لحظة أعترض لدى المكتب الإعلامي لمنظمة أطباء بلا حدود الفرنسية أثناء عملي معهم، فقد كانوا يستخدمون مصطلح جيش الدفاع الإسرائيلي ومقابلة المنظمات الفلسطينية المتناحرة بدل فصائل المقاومة الفلسطينية في مجلتهم وتقاريرهم، وتحججوا أن هذا الاسم الرسمي، ولم يعبئوا بأن الاسم الرسمي الآخر الذي لفصائل المقاومة الفلسطينية، وسموها المنظمات المتناحرة، بحيث أصبح المسمى بدهيا للعاملين معهم حتى من الفلسطينيين أنفسهم -علماً أن مكتبهم الإعلامي الذي صدرت عنه المجلة العربية في دبي-،
لاحقاً استقلت بعد أن تبين لي أن المنظمات الدولية التي تسوّق لنا - أيضاً بدهياً - بأنها محايدة وموضوعية، ما هي إلا منظمات متورطة في هذه المؤامرة الكبيرة على الأرض والإنسان، لكن بدهياً سيتهمني أحدهم الآن بعقدة المؤامرة الصناعة الأولى للمصطلحات البدهية، حيث سيكون البعض متأثرا بمعتقده البدهي بأنها منظمات للإنسان والسلام.
أما النوع الثالث فهو زعزعة البدهيات ومثال على ذلك
- قلب الحقائق: وهي من طرق زعزعة البدهيات لكون الشخص تقلب أمامه الحقائق بصورة صادمة للحظة تجعله غير واثق من بدهياته القديمة، وأحد أمثلة ذلك كلمة مشهورة قالتها وزيرة العصابات الصهيونية في السبعينات جولدا مأيير "نستطيع أن نسامح العرب لقتلهم أولادنا، لكن لا نستطيع أن نسامحهم لإجبارنا على قتل أولادهم، ولن يكون بيننا وبينهم أي سلام حتى يحبوا أولادهم على قدر كراهيتهم لنا"
إذا فالبدهيات هي مسلماتنا التي نثق بها، والتي يعمل أعدائنا على صناعتها، أو تحريفها، أو زعزعتها لاحتلال الوعي والإنسان، فتخيلوا كيف أن إنتاج الثقافة والمعرفة أصبح مشوهاً، والخطر الحقيقي الذي أصبح يحيق بنا من كل جانب.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة7
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر