العبث بالعقل: الحلقة6
"إن كلمة تلفيق وكلمة تسويق على وزن وقافيةٍ واحدة، لكن المشترك الآخر بينهما أنهما وجهان لعملة واحدة في بعض الأحيان" يوسف مسلَّم.
عندما بدأنا الحديث عن اليقظة الذهنية وتحريف الوعي، قلنا أن هنالك أربعة مباديء لذلك، ثم قمنا بزيادة التوضيح لأول مبدأ وهو الرؤية في المرآة، وقسَّمنا الأساليب التابعة لهذا المبدأ لأربعة أساليب أيضاً، وأولها أسلوب تزييف الثقة، والثاني أسلوب ممر البدهيات، وسنتحدث اليوم عن الأسلوب الثالث وهو أسلوب تلفيق التسويق، حيث يمكن رؤية هذا يومياً في حياتنا اليومية خاصة في وسائل الإعلام.
إن التسويق أصبح من أهم أساليب ووسائل المرور للناس سواءً عبر الإعلام المرئى والمسموع، أو عبر الصحف والمجلات والمنشورات، كما ظهر اختصاص التصميم والجرافيكس بشكل لصيق للتسويق، لشدة اهتمام المسوقين بالدعاية والإعلان والأشكال والألوان، مروراً من أكثر الطرق اختصارً للمستهلكين والجمهور، فالصورة وسيلة لطبع الانطباع بعمق في أذهاننا.
وسنبحث تلفيق التسويق كأسلوب ضمن عدة أبعاد أساسية كما يلي:
- المعلومات المتحيزة.
- حصر الانتباه.
- ضمانات ملفقة.
- العملة ذات الوجهين.
- التصنع.
- إثارة الأهواء والشهوات.
ولتوضيح هذه الأبعاد فسنقوم بعرض أمثلة تطبيقية حول كل بعد.
- المعلومات المتحيزة.
والتحيز يكون لمعلومات معينة بما يعزز وجهة نظر محددة، وهذا ما نراه في نشرات الأخبار والصحافة والتي غالباً ما تتحيز في ما تعرض أو تستضيف من ضيوف أو كتاب، حيث سترى بوضوح تحيز هذه المنابر الإعلامية لأجندات سياسية محددة، وتقوم بعرض ما يتناسب مع هذا التحيز ويدعمه، حتى الخبر التابع لخبر آخر تراه جاء ليزيد تحيز ذلك الخبر الذي سبقه، ولا علاقه لتسلسل الأخبار واللقاءات اللاحقة بالبراءة والموضوعية.
- حصر الانتباه.
يكون من خلال تركيز انتباهك لجزء ما بشكل كبير بشكل يغيب عنك الانتباه لبقية التفاصيل، مثل ما يقوم الإعلام أثناء الأخبار بتغطية خبر معين وبإغراق شديد والإغفال قصداً لتفاصيل أخرى في نفس الخبر، مثلاً ما قامت به بعض وسائل الإعلام عند عرض خبر ما حدث في "صحيفة شارلي ايبدو" حيث كان هنالك تسليط للضوء على أحداث أو حوارات تحصر الانتباه تماماً أن من قام بذلك هم جماعة إسلامية، والمضحك في الأمر أن منفذي الهجمات كلهم قتلوا ومعهم جوازات سفرهم، وهكذا تعرفوا على أصولهم، وكأن منفذو العملية اصطحبوا هذه الجوازات لأنهم قد يحتاجونها للمرور للحياة الأخرى أيضاً بعد هجوم لا يحمل في طبيعته إلا الموت.
- ضمانات ملفقة.
ذهل العالم بالحلم الأمريكي في الحياة الحرة والثروة والسلطة وتحديداً في بداية الثمانينات، حتى رأينا إخراجاً مسرحياً لذلك من خلال دورات تدريبية في بداية عام ٢٠٠٠ تدّ ُع الناس لضمان النجاح والثروة بمجرد إيمانه بهذه الأفكار، وهذه الأفكار التي تعكس في جوهرها نمط الحياة الرأسمالية، وتضخم الثروة والأسواق، وسيلان اللعاب تجاه المال والسلطة، فقد سربوا أفكارهم لعقول الناس التي تبنتها فورا، ًفما أسهل تبني ما يخدم المصلحة ويضمن النجاح، خاصة لكون هذه المعتقدات والتي هي أقرب لأن تكون عقائد الطريق للإنجاز والعمل والتفوق والنجاح والثروة دون، وخدع الناس بالضمانات دون النظر لحقيقتها وغايتها وأبعادها القابعة في الظل، فما نتبناه من أفكارٍ تصنع وعينا سيكون لها أحياناً آثار جانبية تحرف الوعي وتزيف الحقائق، فما كان من أثرها إلا ارتفاع الفردية والإيمان بالذات والركون لقوة العقل، بعكس ما نراه جاريٍا في الدول العقائدية والتي تربي شعوبها على الجماعية والغيرية والركون لشكل إيمانها، فنرى شعارات جيوشهم تقول (كن مجهولاً، احم وطنك، مُت بشرف).
- العملة ذات الوجهين.
في طفولتنا العصية على تصنيفها حسب معايير جودة الطفولة، كان من أحب ما نشاهده على الشاشة الصغيرة -محدودة الخيارات في حينها- كل ما يدور حول الشجاعة والبطولة، وكم كانت الفرصة عظيمة بالنسبة لنا لو حصل وشاهدنا فلم لبروسلي، أو أبطال معبد الشاولين الذي أصبح معروفاً لنا كمعبد يدعو للخير ويدافع عنه الابطال، وإضافة لقوة انجذابنا لكل حركات القتال وفنون الدفاع عن النفس، فقد كانت تجذبنا طقوس معبد الشاولين، والشموع، والسجود بإجلال أمامها، إن تسويق مذهب البوذية ضمن قصص البطولة والقوة ما زال موجوداً للآن، غير أن التسويق في برامج الأطفال أصبح أيضاً للسحر والشعوذة كطقوس للقوة والدفاع عن الذات، فمن وجهة هي قوة لكن الوجه الثاني هي وثنية وكفر يمر ضمن ممرات وعينا ويلصق فيها ما يلصق.
- التصنع.
إن الرداء الأبيض للطبيب ذا موثوقية عالية، فهو في وعينا ضمن فئة المصدقين أصحاب الاختصاصات الإنسانية، لذلك نرى كثير من الإعلانات يتم فيها استغلال هذا الرداء الابيض لتسويق سلعة، أو عرض لقطة فيها رجل ملتحي كإشارة للمتدينين، أو شخصية ذات قدر لزيادة الوثوق بما يعرض، فالتصنع في الدعاية والإعلان والأفلام والأخبار موجود بشكل واضح، وأحد أغربها إعلانات كبيرة الحجم عرضت قبل فترة حول الإساءة للمرأة في كل لوحات الشوارع، وكل الصور فيها لنساء محجبات، حاربوا طوال طفولتنا المناهج لتكون صور المرأة في مناهج التربية دون حجاب، لكن عندما يتحدثون عن المرأة التي يساء لها فالصور لنساء محجبات فقط.
- إثارة الأهواء والشهوات.
لقد أصبحت كثير من السلع مرتبطة بتعري المرأة، وإثارة الشهوة والرغبة المحرمة، حتى عصير الفاكهة لم تسلم شفاه المرأة من تسويقه كرحيق للذة والشهوة، ويبقى السؤال هنا هل تهدف هذه المادة الإعلانية لرفع قيمة المادة الاستهلاكية، أم أنها تهدف لاستهلاك قيمة المرأة؟.
إذاً لم يعد التسويق وأساليبه المختلفة بريئة من تحريف وعينا، وغرس الغث والسمين من الأفكار والمعتقدات في عقولنا، لقد نقلت ساحة معركتنا إلى داخل بيوتنا حيث تلعب الشاشة دوراً في احتلال ساحات الوعي وإثارة المعارك.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة8
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر