العبث بالعقل: الحلقة7
"إن الانبهار هو التأثير الأقوى لامتلاك كامل الثقة" يوسف مسلَّم.
كنا قد بدأنا سلسلة العبث بالعقل، حيث قلنا أن هنالك أربعة مباديء لأشكال العبث، وسبق أن قمنا بزيادة التوضيح لأول مبدأ وهو الرؤية في المرآة، حيث قسَّمنا الأساليب التابعة لهذا المبدأ لأربعة أساليب أيضاً، كان أولها أسلوب تزييف الثقة، والثاني أسلوب ممر البدهيات، أما الثالث فهو أسلوب تلفيق التسويق، أما حديثنا اليوم فسيكون حول الأسلوب الرابع والأخير من المبدأ الأول وهو الرؤية في المرآة، هذا الأسلوب الذي سبق وأطلقنا عليه اسم (أثر الهالة والحضور الإعلامي).
كما يطيب لأهلنا أن يقولوا "في أيام العز" والتي يقصد بها أيام زمان بعيد كانت فيه المدينة لا تتعدى بلدية صغيرة، وطابع الحياة العام كان قروياً، ففي ذلك الزمن كانت الحظوة الاجتماعية للأستاذ أي المعلم، والذي كان يعد أعلى الناس معرفةً، ثم للدكتور والذي افترض الناس أنه من يفهم بكل شيء وكان لقبه الشائع (الحكيم)، فدكتور القرية ناطقها الإعلامي وإذا حدَّث عن أي أمر كان تناقله الناس بمصداقية، فيقولون "قال الدكتور...كذا وكذا"، ورغم تقدم وسائل العصر والعلم فما زالت الهالة التي يضفيها الناس على أشخاص محددين تلعب دوراً كبيراً في استقبال أي أمر منهم دون تفكير في مدى صحته، لكن الهالة المحيطة للأشخاص تم نقلها اليوم لتحيط بالشخصيات الإعلامية، فمن يتكرر ظهوره في الإعلام أصبح من المصدقين من قبل الناس، وصار مدى الظهور في الإعلام مقياساً للعامة لمدى فهم وعلم هذا الشخص، لدرجة أن بعض دور النشر تستغفل القراء فتكتب عن الكاتب أنه حل ضيفاً على عديد من القنوات التلفزيونية والإذاعية وذلك كإشارة لمدى مستوى شهرة وفهم وعلم هذا الكاتب.
لقد أصبحت الشهرة الإعلامية الهالة المحيطة للحضور في حياة الناس، لكن وللأسف فتجربة دكتور القرية تعود من جديد، حيث يتوقع من هذا الإعلامي أن يكون خبيراً في كل شيء، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعب مقدم برنامج خواطر "أحمد الشقيري" من الشرح والتوضيح علناً بجملته المشهورة (أنا لست شيخاً أو عالماً) ولكن المشاهدين المبهورين لا ينفكون يقحمونهم بفتاوى وآراء، حتى امتلاء الفيس بوك بصور يشير علينا فيها الشقيري للقضايا الاجتماعية والتربوية والنفسية والاقتصادية.... .
إن غالبية القنوات الإعلامية تشارك في صنع الهالة والحضور الإعلامي لبعض الأشخاص حتى تخال أنه لا يوجد غيرهم في هذا المجال، ولم يتنبه بعض المتابعين أن الإعلام مهنة بحد ذاته، فكما يوجد الطبيب المختص المحترف في مجال عمله السريري، يوجد الطبيب المختص بالإعلام والذي يتقن الظهور الإعلامي، مع العلم أن هذا الأخير قد يكون أقل كفاءة من سابقه في ممارسته لمهنة الطب على حقيقتها، فالمهارة الإعلامية على أهميتها، ليس لها علاقة بالضرورة بالمهارة المهنية سواء كان محامياً أو طبيباً أو صيدلانياً؛
ولا أريد أن أحصر ذهن القارئ هنا ضمن فكرة قد تبدو وكأنها تقول أن الظهور الإعلامي خطأ ومشكلة، لا بل على العكس فالظهور الإعلامي يعزز في نشر الفهم والعلم والاختصاصات، لكن ما أدعو إليه هو الخروج من قالب فكرة (دكتور القرية) وإدراك أن معايير الحكم على من يظهر في الإعلام يجب أن تكون واقعية ومنطقية، فقد استغل البعض الإعلام لصناعة هالة حولهم استطاعوا من خلالها خداع الآخرين أو تسويق أفكارهم المسمومة والتي تلقاها المتابعون بانبهار وثقةٍ جعلتهم يتبنونها من حيث لا يشعرون.
إن الحضور الإعلامي وأثر الهالة قد نقل الناس حتى لإعطاء مصداقية ومتابعة آراء بعض الممثلين والمغنين، وكما أشارت أحلام مستغانمي - بغض النظر عن مدى اتفاقي مع كتاباتها- كما أشارت في مقالتها (دافعوا عن وطن... ) حيث تقول كانوا يدعون سابقاً للدفاع عن وطن تولستوي أو غيره من الأدباء والفلاسفة، لكن الإعلام نقل الناس ليروا دولهم وأوطانهم من خلال المطربين والممثلين، والذين صارت مشاركتهم في الحياة العامة والرأي العام أهم من آراء الخبراء والحكماء.
إذاً فللحضور الإعلامي أثر بالغ في الشهرة وإعطاء هالة تسبب الانبهار وتقبل أفكار الإعلاميين، الذين قد تكون صناعتهم التي يتقنونها الظهور في الإعلام فقط لا غير.
أنهينا في هذه الحلقة الحديث عن المبدأ الأول وهو الرؤية في المرآة، وأوضحنا من خلال الأساليب الأربعة فيه كيف من الممكن أن نرى في مرآة مقعرة أو محدبة تعكس واقعاً محرفاً أو منحرفاً ورغم ذلك نظن أن الصورة المنعكسة هي الصورة الحقيقية، وهي الواقع.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة9
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر