العبث بالعقل : الحلقة8
"إن كانت المبادئ العلمية تحكم كل علمٍ من العلوم فهذا يعني أن يحكم العلم مبادئ التفكير أيضاً" يوسف مسلَّم.
تحدثنا منذ الحلقة الأولى عن اليقظة الذهنية وموادها المعرفية، وذكرنا أن محرفات الإدراك والمعرفة يمكن وصفها ضمن أربعة مبادئ أساسية كما يلي:
١) مبدأ الرؤية في المرآة.
٢) مبدأ الطائرة الورقية ومدار الصاروخ.
3) مبدأ محدودية العقل.
4) مبدأ الهروب للسجن.
وتطرقنا خلال عدة حلقات لتفاصيل وأبعاد المبدأ الأول حتى وقفنا على المفهوم وكافة أبعاده، أما اليوم فسوف نبدأ بإذن الله بالتوضيح لأبعاد المبدأ الثاني وهو مبدأ الطائرة الورقية ومدار الصاروخ، حيث وصفنا سابقاً أن الطائرة الورقية إن طارت بغير توجيه تاهت وتحطمت، وأن الصاروخ لو ترك بغير حساب لقوة إندفاعه ومدىً يناسب دورانه لتاه وفقد اتجاهه وتوجهه، وهكذا العقل حين نطلقه في الفضاء.
كما نعرف جميعاً، فإن قوانين ومبادئ الفيزياء تحكم علم الفيزياء، فمن خلال النظريات والقواعد والمسلمات الفيزيائية كما في قوانين نيوتن على سبيل المثال نفهم الفيزياء ونستخرج تطبيقاتها العملية، كما تحكم مبادئ الكيمياء كافة التفاعلات والمرَّكبات الكيميائية، ونجد أن كل علم نعرفه مثل الرياضيات أو الأحياء أو علوم الأرض والتكنولوجيا لا تخرج من قاعدة أساسية مفادها (كل علم محكومٌ بمبادئ أساسية، وكل عالمٌ قام باكتشاف علمي إنما قام باكتشاف مبادئ علمية لم تكن معروفة من قبل) إذاً فالمبادئ الأساسية هي ما يحكم كافة العلوم مهما كانت طبيعتها، أي أن المتعلم لأي علمٍ كان يجب عليه تعلم مبادئ العلم الذي يريد التخصص فيه ليصبح من علمائه، وهذا بدوره يقودنا لقاعدتان هامتان هما:
١- مهما كان ذكاء المتعلم فيجب عليه التزام المبادئ والقواعد العلمية للعلم الذي تخصص فيه، فالقاعدة هنا: يجب أن يتم ضبط العقل ضمن مبادئ العلم الذي يريد التفكير فيه، وإلا ما عاد علمياً.
٢- بما أن العقل يضُبط ضمن قواعد العلم، فإن الانطلاق بالتفكير دون مبادئ وضوابط للتفكير العلمي لا يعتبر من (قواعد التفكير العلمي) وهذا معناه التشتت في تفكير غير علمي أو خارج المبادئ العلمية، كالطائرة الورقية بغير تحكم، أو الصاروخ بغير مدىً لدورانه، أي التفكير العبثي، والقاعدة هنا: العقل يحتكم بمبادئ العلم، إذاً مبادئ التفكير العلمي أساس ضبط العقل ومنهجية التفكير العلمي والمنطق السليم.
وهذا يقودنا لنفهم قضيةً أساسية وجوهرية خاصة بالعقل مفادها: أن عدم وجود ضوابط للتفكير أو قواعد أو مبادئ علمية تحكم التفكير ما هو إلا كإطلاق صاروخ في الفضاء دون مدار واضح، مما سيعمل على فقدان هذا الصاروخ بخروجه عن مداره ثم انفجاره، أو فقدانه للأبد.
وهذا ما نجده في ما يطلق عليه بإطلاق قواك الخفية، فلو كان مقصود ذلك القوة النفسية الكامنة في داخل كلٍ منا والتحفيز للتخطيط والتطوير والتطور والتعلم والتحمل والصبر فلا بأس في ذلك، لكن عندما يُقصد تحرير العقل وأعمال الفكر والتفكير كيفما كان حتى يستفيق ذلك العملاق كما وصفه أحدهم، فهذا لن يوصل الإنسان لأي مكان، فإن إطلاق العقل البشري دون تدريبه على مبادئ تحكم تفكيره وأسلوبه العلمي وهو ما نراه يحصل عندما يقول لك أيقظ قواك الخفية، وهذا بالضبط يتناسب مع إيقاظ الطفل فيك، مثلما كان أهلنا في صغرنا يقولون لنا "العبوا زي ما بدكم لكن ما تخربوا" ولم يحددوا لنا معنى تخريب فيكتشفوا لاحقاً أن التخريب أصبح جزءًا من لعب الأطفال، فعندما توقظ قواك الخفية فحقيقة ما يحدث أنك توقظ تفكير الطفل داخلك بطريقته الطفلية الحالمة بالتفكير والأمنيات، فيتوه العقل في مساره في فضاء الخيال والرغبة والتمني، فلا نرى طحيناً ولا نسلم من صوت المطحنة.
إن مدار التفكير يجب أن يتحلى بالتوازن، ويعزز بمبادئ أساسية، وإلا وقعنا في أخطاء التفكير ومغالطات قد تبدو منطقية، ولهذا سنبحث في هذا الباب بأخطاء التفكير والمغالطات المنطقية الأساسية المعتمدة في علم النفس المعرفي العلاجي، وقد تم تحديدها ضمن مسميات كما يلي:
١- التفكير القطبي: حيث نرى الأمور ضمن قطبين إما سلبي أو إيجابي دون وجود مساحات متوسطة بينهما.
٢- التفكير الانتقائي: حيث نركز على تفاصيل ونهمل تفاصيل أخرى دون وجود منهجية لذلك الانتباه الانتقائي.
٣- الاستنتاج التعسفي والانطباعية: وهي الانطلاق بنتائج مسبقة وانطباعات أولية دون أدلة كافية.
٤- التعميم الزائد: تعميم التفكير بحدوث أمر سلبي نتيجة لحدوثه سابقاً مرة واحدة.
٥- التهويل والتهوين: تضخيم الأمور كأنها كارثية، أو التقليل من شأن أمور أخرى كأنها هينة.
٦- إساءة التوصيف: إعطاء أوصاف غير دقيقة وقد تكون جزافية.
٧- المغالطات المنطقية: مغالطات تحتاج للتنبه لأنها تبدو منطقية ومقنعة جداً، لكنها في جوهرها تحمل خطأً علمياً في أسلوب التفكير.
وسنقف على كل من النقاط السابقة في حلقة كاملة لاستيفاء شرحها وتعلم منهجيتها والحذر من خطائها.
إذاً فهذا الباب هو دعوة للانتقال للتفكير العلمي المنهجي، وتعزيز تعلم المبادئ الأساسية لعمل العقل والمنطق، وتوظيف ذلك بفهم وإدراكٍ سليم.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة10
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر