العبث بالعقل : الحلقة 9
"عندما يعتقد البعض أن معاييرهم تجعل منهم أشخاصاً مميزين، فقد تكون هذه المعايير ذاتها سبب في معاناتهم من الإحباط الشديد في يومٍ من الأيام" يوسف مسلَّم.
بدأنا منذ الحلقة الماضية في الحديث عن المبدأ الثاني من مبادئ تحريف الوعي والإدراك وهو مبدأ الطائرة الورقية ومدار الصاروخ، وكما تطرقنا خلال عدة حلقات لتفاصيل وأبعاد المبدأ الأول حتى وقفنا على المفهوم وكافة أبعاده، فسوف نبدأ بإذن الله بالتوضيح لأبعاد المبدأ الثاني وهو مبدأ الطائرة الورقية ومدار الصاروخ، وكنا قد وصفنا سابقاً أن الطائرة الورقية إن طارت بغير توجيه تاهت وتحطمت، وأن الصاروخ لو ترك بغير حساب لقوة اندفاعه ومدىً يناسب دورانه لتاه وفقد اتجاهه وتوجهه، وهكذا العقل حين نطلقه في الفضاء.
ولهذا سنبحث في هذا الباب بأخطاء التفكير والمغالطات المنطقية الأساسية المعتمدة في علم النفس المعرفي العلاجي، وسوف نتحدث عن أول أخطاء التفكير حسب التصنيف وهو ""التفكير القطبي"".
يوصف هذا الشكل من أشكال التفكير بالحكم على الأمور ضمن قطبين إما سلبي أو إيجابي دون وجود مساحات متوسطة بينهما، ونتيجة ذلك فأحكام الشخص الذي لديه هذا التفكير تكون فقط على قطبين، معي أو ضدي، أسود أو أبيض، ناجح أو فاشل، فهذا مقياس له مكانه المحدد، مثل أن نقول أن العبث بأسلاك الكهرباء مميت، أما حين نقيس على هذا المقياس أمور الحياة الأخرى ونفترض أن هنالك قطبين فقط لأي شيء فهذا سيجعلنا نميل للكمالية، ونجعل أحكامنا متطرفة.
وثأثير ذلك على من يتبنى هذا المقياس في معظم أمور حياته أنه سيعرضه لتكرار الإحباط بسبب عدم قدرتة على تحقيق المعايير الصعبة التي يضعها لنفسه، تخيل معي أننا أمام أربعة طلبة من طلاب الثانوية، الأول يقول إن لم أكن الأول في مدرستي فهذا يعني أنني فشلت، والثاني يقول إما أن يكون معدل ما فوق ٩٥ أو سأكون فاشلا، الثالث يقول إذا لم أكن ضمن العشرة الأوائل سأكون فاشلاً، والأخير يقول يجب أن يتراوح معدلي ضمن ٩٠ وأكثر، يا ترى من منهم يعاني من مستوى عالي من الضغط النفسي والإحباط؟
لقد لعبت بعض برامج الأطفال دوراً كبيراً في زيادة مستوى التفكير القطبي لدى أطفالنا، فهي تطل علينا بقصص الأخيار مقابل الأشرار، حيث الأخيار أخيار بالمطلق والأشرار أشرار بالمطلق، وهكذا يتربى طفلنا على ذلك، إضافة لفكرة معي أو ضدي.
إن التطرف الفكري يمر من باب التفكير القطبي، حيث يغرس في أصحابه معاييراً قطبية، فإما أنك معي أو ضدي، على حق أو خطأ بالمطلق، تستحق الحياة أو فقط تستحق الموت، ويميل التطرف إلى أن يكون إفراطاً أو تفريطاً.
لقد عبث البعض في معايير حكم الناس على أنفسهم، مما أدى إلى التسبب في الأذى النفسي لهم، فلو كنت تريد التسبب بالإحباط الشعبي العام لأي شعب فإنك تحتاج أن تصنع التالي:
١- اجعلهم يسعون ليحققوا معايير ذاتية عالية المستوى من خلال قدوات تاريخية وأعطي هذه القدوات قدرات وأوصافا تجعلهم متفوقين في كل شيء، ومعاييرهم من الصعب جداً تحقيقها.
٢- أعطي انطباعاً أن الذي لا يستطيع تحقيق هذه المعايير فهو فاشل بالتأكيد، وأن موضوع تحقيق هذه المعايير هو موضوع إرادة ذاتية، وأن من لا يحققها سيدل ذلك على ضعف إرادته.
٣- هكذا سيتسلل الإحباط والإحساس بالفشل وستتسبب بإحباط عام، وشعور بضعف القدرة والإرادة، وستصبح التوجهات سلبية اتجاه الذات والمجتمع.
إذاً فالتفكير القطبي أداة قياس وحكم وتفسير للأحداث والأمور، ولو وضعت في غير مكانها، فستجعل من صاحبها مبالغاً جداً في أحكامه.
انتظرونا في الحلقة القادمة بإذن الله....
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة11
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر