العبث بالعقل : الحلقة١٠
"يجذب قطب المغناطيس إليه القطب الضد لأي مغناطيس آخر، بعكس تفكير الإنسان الذي ينتقي ما يوافقه فقط حتى وإن كان خاطئاً" يوسف مسلَّم.
بدأنا منذ الحلقة الماضية في الحديث عن المبدأ الثاني من مبادئ تحريف الوعي والإدراك وهو مبدأ الطائرة الورقية ومدار الصاروخ، وكنا قد وصفنا سابقاً أن الطائرة الورقية إن طارت بغير توجيه تاهت وتحطمت، وأن الصاروخ لو ترك بغير حساب لقوة اندفاعه ومدىً يناسب دورانه لتاه وفقد اتجاهه وتوجهه، وهكذا العقل حين نطلقه في الفضاء دون حسبةٍ وحساب.
سنبحث في هذا الباب بأخطاء التفكير والمغالطات المنطقية الأساسية المعتمدة في علم النفس المعرفي العلاجي، وسوف نتحدث اليوم بإذن الله عن ثاني أخطاء التفكير حسب التصنيف وهو "التفكير والانتباه الانتقائي".
يدور مفهوم التفكير الانتقائي حول عمليات التفكير التي يتم التركيز فيها على جوانب محددة تدعم فكرة أو قناعة محددة، مع إهمال باقي الجوانب التي قد تكون ضد صحة هذه الفكرة أو القناعة، ويرافق عمليات التفكير الانتقائي عمليات إدراكية تعرف باسم "الانتباه الإنتقائي" وهي تصف عملية انتباه جزئي للمواقف المختلفة بحيث يتم الانتباه فيها لبعض العناصر وإهمال بقية العناصر.
يعد الانتباه الانتقائي عملية أساسية في استجابات النجاة، حيث أننا حينما نتعرض لمواقف الخطر من الضروري أن يتركز انتباهنا على العناصر الهامة في الموقف لتزيد فرص النجاة، وهذا معناه إهمال الكثير من العناصر الأخرى التي يتم إقصائها بسبب تقدير أنها ثانوية، لذلك لا يتم اعتبارها حيث أنها غير مهمة الآن لتحسين فرص النجاة.
عند التعرض للضغوط النفسية يزيد مستوى الانتباه والتفكير الانتقائي بحسب مستوى التعرض للضغوط، ولكن ذلك قد يسبب الحرمان من الانتباه لعناصر قد تكون هامة للتعامل مع الظروف الضاغطة، حيث تم إقصائها والانتباه لغيرها.
يقوم الإعلام المسموع أو المكتوب، أو حتى كُتَّاب المقالات والكتب بالعبث بالعقول حين يعرضون نصف قصة أو فكرة أو قضية بإفراط مقابل عدم إعطاء تغطية كافية للنصف الآخر من القصة، ليقوم بذلك بتعزيز مبدأ التفكير والانتباه الانتقائي لدى المشاهد أو القارئ، وقد قال الملك فيصل آل سعود -رحمه الله- في إحدى اللقاءات "لا أحب الإعلام، فهو يريدك أن تقول ما يريد وليس ما تريد".
إن بعض مراكز الأبحاث تمارس التفكير والانتباه الانتقائي في دراساتها ودعمها للدراسات، فنجد بعض مراكز الأبحاث في الوطن العربي قد أغرقتنا في أبحاث حقوق وتمكين المرأة على سبيل المثال، ولم يكن هنالك بحث واحد حول العمالة الوافدة أو طبيعة ما تتعرض له مستقدمات الخدمة من معاملة مثلاً، أو أثر الاختلال الاجتماعي الثقافي لتدخل البرامج الغربية في البيئة العربية، وما زلت اذكر حين كنت في فلسطين اثناء دراسة البكالوريوس، فقد رشحوني لدورة حول حقوق وتمكين المرأة، وكانت كل الدورة عن اضطهاد المرأة وظلمها؛
وعرضت عدة مشاهد فيديو خلال اسبوع الدورة وقد كانت المادة والفيديوهات للمجتمع المغربي، كون ان البرنامج الذي نحضره بدعم الأمم المتحدة وبروز دور النساء المغاربيات في عمل لجان تمكين المرأة، وقد سألت مدربتنا حينها حول ذلك، ولماذا لم نشاهد فيديو واحد عن فلسطين؛
وقد اجابت أنها مشكلة عربية ولا فرق من أين الفيديو، فأجبتها أن جدتي وكل اقاربي واهل قريتي لن يوافقونها على ما تقول، حيث ساهمت المرأة في العمل والجهاد، وهنالك من نساء قريتي من يستشرن ويؤخذ برأيهن وهذا ليس خاص بل هذا الأمر الدارج في فلسطين المحتلة عموماً، وان ما تفعله هو استيراد لبضاعه فاسدة والتسويق لمشكلة، بالتأكيد أن هنالك قضايا فردية ومتفرقه منها لكنها لا تستحق كل هذا التسويق والانفاق والتضخيم لها في بعض جوانبها مع اغفال متقصد لجوانب ايجابية أخرى كثيرة على الاقل في ذلك المجتمع.
وحقيقةً فإن هذا الموضوع في الوطن العربي قد تم نفخه الى حد انفجاره في وجوه الجميع، وما رأينا من كثير من ناشطات العمل النسوي الا رغبة في التميكن لتوظيف بناتهن، حيث توضع أبنة الناشطة القديمة وراثة في مركز وظيفي متقدم ضاربة في الحائط حقوق الأخريات الاكثر استحقاقاً، وقد وجهت دعاوى مختلفة بحق مكاتب استقدام عاملات للاردن بسبب ضرب العاملات واهانتهن من قبل موظفي المكتب المملوك كلياً او شراكةً مع بعض ناشطات العمل النسوي او ناشطات حقوق الإنسان، حيث غفلن أن المرأة المستقدمة للعمل هي امرأة اصلاً.
لقد دَّبَ الخوف في قلوب الناس بشكل أكبر مع عالم التواصل الاجتماعي الذي اصبح يركز انتقائياً على بعض الاخبار دون أخرى، فلو ذكر في الفيسبوك أن طفلا صينيا سقط وأصيب، لرأيت ردة فعل وخوف الآباء والأمهات من حدوث ذلك مع أبنائهم في الأردن، إن الكثير مما يركز عليه في هذا الاعلام كان يحدث سابقاً وليس جديداً، لكن دون نشره والتركيز المفرط على قضاياه، وعندما بدأ هذا الافراط في التركيز على القضايا ارتفعت نسبة التفكير والانتباه الانتقائي لدى المتابعين، مما زاد من مخاوفهم لتوقعهم بحصول ذلك معهم، دون تنبهٍ منهم أن هذا التفكير والانتباه الانتقائي قد عبث بعقولهم دون دليلٍ يذكر على صحة ذلك.
إذاً فالتفكير والانتباه الانتقائي قد يصبح قالباً يجبر صاحبه أن يرى العالم من خلاله، عفواً هل قلتُ العالم؟؟؟ أعتذر حقيقةً فالوصف الادق أن يرى بعضاً من العالم بحسب ما يريد أن يراه او يتوقعه.
ويتبع >>>>: العبث بالعقل: الحلقة12
واقرأ أيضاً:
ما هو الحزن؟ / ما هو فقدان الأمان؟ / صناعة الهدر