سيهرش مُشرَّد في شعره، ويقول لك إن أصعب ما في الحياة هو قمل العانة، وسيمسح طفل مخاط أنفه ويقول لك إن الحصول على الشوكولاتة هو أصعب ما في الحياة، وسيقطب صاحب اليخت حاجبيه، ويشكو صعوبة صيد الأسماك هذه الأيام. أما أنا..... أنا؟! لا أعرف ما أريد حقا. لم أرد ارتياد كلية الطب، لكني لم أرد دراسة جامعية أخرى، ولم أرد الزواج لكني وضعت خاتم زواج في عنقي، ولم أرد الأطفال؛ لكن رحمي انتفخ بهم مرتين. ربما أردت ...
كل هذا الرمادي! نظرت إلى حوائط المستشفى الحقيرة بخواء. كانت ملطخة ببقايا أوراق كتبتها لطاقم التمريض من أجل ما سميته – ذات يوم - متحمسة "تنظيم العمل". ابتسمت ساخرة وخِفْتُ أن يراني أحد من طاقم التمريض، فيتهمني بالهذيان. أعدت تقطيبة جبيني إلى وجهي مرة أخرى، وأخذت أنقر على أزرار هاتفي المحمول بلا هدف واضح.
جلس على كرسي من الحديد المطلي باللون الرمادي. أمامي مباشرة كما يجلسون دوما. بأمر الممرض صاحب السطوة الخفية ومانح السجائر، وكل الامتيازات ليلا وربما صباحا، أو بوازع من طلب المعونة من طبيبة القسم تحت فرضية كون طبيب القسم صاحب اليد الأعلى؛ لكن مرضاي سرعان ما يقرأون كيف تنازلت عن سطوتي الشرعية المعلنة لممرض القسم. يقرأون ألغاز إحباطاتي الذاتية، فيبتعدون ويبتعدون ويجلسون كل يوم على الكرسي الرمادي بأمر صاحب السطوة ومُنْزِل العقاب.
حكى مريضي أنه رأى المعطف المعلق في مسمار على الحائط وحشا كاسرا يكاد ينقض عليه، خائف جدا مازال رغم أن الوحش لم يحرك ساكنا. ما يخيفه أكثر تلك الأصوات الوهمية التي تلح عليه بلا هوادة. لم أتكلم كطبيبة محترفة، فقط أواسي بصورة مبهمة لا أستطيع وصفها، ويستطيع هو إدراكها. ما لا يُقال يُقال على ألف وجه. حدق في عيني مباشرة. أربكني حقا. لأول مرة أتعاطف مع خوف الرجال، خوف صادق ليس من أجل اصطياد امرأة أو اختطاف بعض من حنين أنوثتهن. أشعر أن لدي شيئا أمنحه عن طيب خاطر، وأشعر أني ململمة الأجزاء لأول مرة في حياتي.. لأول مرة منذ سنين طويلة.
أنتوي في المرة القادمة أن أكون أكثر احترافا كما يليق بصيد اهتمامه. ألخص كلامه وألقيه على مسامعه. سأهز رأسي كثيرا، وأقول "أها" بين كل جملة وأختها التي تليها. لن أنتقده، وسأجعل من كل ما يقول ويفعل فعلا عاديا طبيعيا كشرب الماء وعبور الطريق. سأرسم في عيني أملا صغيرا. لن أتغيب عن الحضور، وسأحاول استعادة صولجاني السحري كصاحبة اليد الأعلى في القسم.
ذكي ولماح ـ مثل ذلك الرجل الذي فقدته ولم يفقدني هو ـ لكنني كنت مازلت أشك في أنه التقط خلاصتي المسكوت عنها (في الوهم تكمن حقائق، أما الهلاوس لا حقيقة فيها غير شفقتي عليك). من أجل تأكيد أكبر على أنه التقطني، ربت على كفيه بسرعة عندما اختفى الممرض. لا أدري كيف جرؤت على فعل هذا. كان لا بد أن ألمسه، وأتعرف على جسده عبر هذا الاتصال الخاطف. ابتلع عقلي جيناته وتاريخه.. خلل مفاجيء في ضبط النوازع المنحرفة. ابتسمتُ لأنه لا لذة بلا انحراف؛ يشبهه كثيرا.. ذلك الذي مضى بلا وداع، وهذا الذي يسبح في دمي الآن يشبه ذلك الذي كان. كنت أحتاج إلى من يقرصني في فخذي ليوقظني من حلمي ويردني إلى سياق ثقافي يُجَرِّمني، فلا لذة من دون جرم. اندهش. انقبضت عضلات كفيه. فكر قليلا. استسلم. ارتخت عضلاته وملامح وجهه. ابتسم. ابتسمت بارتباك. دخل الممرض. فردت ظهري وجمدت اللحظة في وجهي كسارقة محترفة. انشغلت بالكتابة في ملفه. ابتسم بخبث. جاءت زائرته. انتقلا لغرفة الزيارة.
جلست أراقبهما؛ مريضي المدمن وزائرته الغامضة؛ من مكاني. دخلت مضيئة كلوحة لإعلانات النيون. مزهوة بنفسها؛ بجسمها تحديدا كسفاح دوَّخ أعتى أجهزة الشرطة. خطواتها سريعة نشيطة. بسطت تنورتها قبل الجلوس بحيوية وكأنها ستخمد بها نارا تضطرم في الكرسي (أنا أجلس برشاقة أكبر). عيناك في فتحة الديكولتيه مثلهم جميعا؛ مثل كل الرجال؛ بينما كانت مشغولة بخيلاء في وضعك كرقم في قائمة المحدقين في صدرها. تحركتُ في هذه اللحظة نحو حقل إبصارك؛ لكن جسدي تخشَّب في منتصف المسافة بمجرد أن أدركت أنها محاولة يائسة من امرأة عجوز ترتدي حلقة زواج ذهبية بلا بريق بفعل الزمن والآثار الجانبية لصابون تنظيف الصحون.
هذه الفتاة المضيئة كهوليود ربما ستحميني من خزي محقق إذا نحَّت عينيك عن جسدها لتطالع أنت تلك البقعة البيضاء التي تفترش ذيل فستاني الكحلي ـ أحب فساتيني لقلبي إذ ربما ينجح في أن يهبني صدرا ناهدا وخصرا نحيفا مثل المضيئات. تلك البقعة التي ابتلتني بها خديعة جديدة من قطرات الكلور المبيض (لا يمكنني المفاخرة بغسيلي أمام الجارات!) تحكّني. تمنيت أن يطرح فستاني الكحلي من وزني عدة كيلوجرامات لكني اكتسبت ما هو أثقل أثناء تمرد شهيتي على الأيام السيئة، والتحديق في شاشة التليفزيون لساعات.
غضبت جدا. أقوم تاركة إياهما وأنا أشعر بأني لست سوى حلقة زواج ممشّحة لا أكف عن تمريرها بين أصابعي ربما تحيا من جديد، وبقعة بيضاء بشذوذ لا يُحتمل على ذيل فستان كحلي تجاوزته الموضة. وأنا أمرر حلقة زواجي بهذه الطريقة أتذكر مريضة بالوسواس القهري لا تكف عن فعل ذلك لأنها لو تركت حلقة زواجها لتستقر في إصبعها ستموت. حالة كلاسيكية للوسواس القهري الفكرة السخيفة الغازية للعقل والمسيطرة عليه آناء الليل وأطراف النهار. قلت لها ما علاقة الموت باستقرار حلقة الزواج مستنكرة بينما كنت أنا من وقت لآخر أقوم بنفس الفعل وأشعر حقا أن استقرار حلقة الزواج التي لم ولن اسميها دبلة الخطوبة بدلع شادية أو دبلة الزواج هي أول طريق الموات فعلا.
"اشتغلي على نفسكِ أولا".
النصائح خاوية جوفاء ولو جاءت من أفواه المعلمين الناصحين، والأوامر تسقط قبل أن نحاول حتى استقبالها.
كل صباح اختبر فرضية ألا أنهض من سريري؛ لكني في النهاية أنهض كي يعذبني الماء البارد حين "يطس" وجهي، والقهوة المرة التي أتجرعها كدواء (منبِّه عصبي متوسط التأثير)، وكل التثاؤب الذي "أطس" به وجوه المرضى حين أجلس أمامهم لأفرغ شكواهم من أجسادهم. رحلة الذهاب الطويلة إلى العمل عذاب آخر. زحام وتنافس أخرق. أحاديث التليفونات المحمولة تتغلب على الأحاديث الجانبية الحية بعد العروض الأخيرة لشركات المحمول الاحتكارية الكبرى. آه زحام وكل الأجساد في انضغاط وانبساط وألفة، لا تمانع في احتكاك الأكتاف بالأكتاف، والمؤخرات بالأكتاف، والمؤخرات بالمؤخرات.
يقول الرجل صاحب الحلقة إنه يجب النوم على جنبه الأيمن. هكذا ببساطة يقوم بتجميد ما بيننا وبوأد أي محاولة جديدة للبناء على ما كان بيننا. خلعت دبلته على الكومودينو، وأغمضت عيني. حلمت بزميلي في العمل الذي أمقته على كل الأصعدة يعانقني. وكأني أحبه، ذبت بين يديه في قبلة! مزاجي صار في أسوأ حالاته. تشاجرت مع حارس بوابة المستشفى الجديد الذي لم يتعرف علي، وممرض القسم، ومع نفسي.
جلس على كرسي من الحديد المطلي باللون الرمادي. أمامي مباشرة كما يجلسون دوما. يشبه من فقدته ولم يفقدني. شعر طويل ينسدل على كتفين عريضين. نظرات مشابهة باستثناء تلك الغطرسة التي ميزت الأول ومُضافا إليه صرخة النجدة اللذيذة لدى الثاني. تلك التي تشحذ طاقة الحراس وإخلاصهم. ضبطت نفسي متلبسة بالحماسة وأنا أدخل عملي لأول مرة منذ سنوات طوال. حماسة ممزوجة بالفرح البِكر. أرى صورته ودعوة الاستنجاد في عينيه، فأبتسم لأني سأهبّ لنجدته. يرمقني حارس بوابة المستشفى باندهاش. أبالغ في ابتسامي وأهز رأسي. نجلس معا. لن أسأله عن زائرته الغامضة. أتخلى عن فضولي المهني أيضا لصالحي؛ خوفا من أن أسمع ما لا يسرُّني.
على كل حال لن تأتي المضيئة اليوم. سيكون لي وحدي. أبتسم ثانية. قد أسرق تربيتة حانية أخرى. قد يبتسم بلا اندهاش هذه المرة. قد يكون في انتظار هذه التربيتة بفارغ الصبر. قد أفرح أكثر من أي يوم مضى. قد أفرح وأنا معه أكثر من فرحي مع المتغطرس، وبالطبع أكثر بكثير من الرجل صاحب الحلقة.
كنت أطير في طريقي إلى القسم حيث أعمل. لم تضايقني برودة الكرسي الحديدي المطلي بالرمادي أو قسوته، لكني نقلت مكتبي بالقرب من النافذة المغلقة. فتحتها لأول مرة منذ زمن، وجلست أتأمل الأشجار النادرة التي تملأ الحديقة. لم يكن مؤرقا في هذا المشهد سوى الخلفية الزاعقة جدا لنعيق الغربان المُعَمِّرة هنا. ومن بين الضوضاء ميزت صوتا ما. ربما صوتها. أستاذتي الجامعية العجوز التي لم تتزوج سوى العلم، ولم تتغيب يوما واحدا عن الذهاب للجامعة ....
كويس كوستوديات إبسوس كوستوديس Quis custodiet ipsos custodies. ماذا؟ من يحرس الحراس؟! كنت تحرسين مريضا لكنك هدمت حصونك بنفسك.
النصائح خاوية جوفاء ولو جاءت من أفواه المُعلّمين الناصحين، والأوامر تسقط في الطريق إلى آذاننا حتى لو حملتها تربيتات أياد حانية.. لأنه لا لذة بلا خرق. لا سحر.
"إلا هذه." صرختْ بحزم في وجهي.
مسحت رذاذ لعابها عن ملامحي، وتوقفت عن مشيتي المختالة فجأة.
درس قديم كملابسي التي كرهتها. نسيته. من يحرس الحراس أنفسهم؟ من يراقب سطوتك؟ صوت أستاذي يهدر وأنا أتثاءب في نهاية المدرج: "كويس كوستوديات إيبسوس كوستوديس". يتحرك بيننا عريضا طويلا أشيب الشعر كإله. ويتفحصنا فننكمش في خشب المُدرّج، لأنه يسبر أغوارنا المنحرفة. نداري أعيننا عنه. منحتكم عيونا، وسلاحا، فهل تحتاجون عيونا لتراقب عيونكم؟! يتعطل عقلي، ولوهلة لا أجد إجابات ولا أريدها. أتعثر في ذيل فستاني الكحلي وأستدير خارجة. أسرعُ من خطوي. أركض بعيدا وتفلت مني الدموع.
واقرأ أيضًا:
المؤامرة الإيطالية على مصر/ خوف الرصاص من الهتاف!/ الطب والديكتاتورية !/ السكر ! حتى السكر يا مصر معادش !/ حدوتة محسن فكري/ الوصمة