سيكولوجية الملْحد:
** نجد الإنسان بكل سعيه الحثيث لضبط كل شيء وتنظيمه، والوعي بطبيعة الأمور التي تحيط به، وفهم قوانينها، نجده بكل هذا أكثر المخلوقات جدلا بخصوص نظام وإتقان صُنعه، وثبات وإعجاز قوانين الطبيعة من حوله، مع أنّه ما من عاقل يسخر من تلفاز صغير، أو جهاز راديو، أو آلة لقياس الضغط الدموي، ويسفّه النظام والأجزاء التي صُنعت منها هذه الآلات، أو يدّعي أن أجزاء فيه جاءت مصادفة وعشوائية.
بل لا أحد من أكابر الملاحدة يستطيع أن يقول أمام العالم وبكل جرأة وشهامة أن "إبرة" صغيرة دقيقة ذات "ثقب" قد صُنعت من لا شيء، أو أنها صنعت نفسها، أو أن صانعها غير موجود !
- فلماذا يظهر منكر النظام والإتقان والغائية في الكون والمخلوقات والمنكر نفسه من ضمنهم، أكثر "عقلانية" وليس أكثر جنونا، ويُنسب إلى "التفلسف" أكثر مما يُنسب إلى السفسطة والغباء والضحالة الفكرية ؟! مع أن نفس الشخص قد يبدو ضئيلا وسفيها إذا أنكر القصد والغائية والتصميم المُسبق لإبرة صغيرة ؟!
- ومن جهة أخرى كيف للناس أن يكونوا أكثر تسامحا مع من أنكر خالقهم الذي يؤمنون به بكل قوة، في حين يرفضون رفضا تاما أن ينكر شخص ما وجود صانع لإبرة أو كأس أو قلم رصاص، مع احتمال كبير لإلصاق المرض العقلي به؟ !
- إليكم تفسيري للأمر من ثلاثة زوايا:
* الأولى: العقل الجمعيّ أو الحدس المشترك
-ففي حالة إنكار صانع "الإبرة" فسواء المنكِر أو المثبت كلاهما ينتميان إلى نفس طبيعة ذلك "الصانع"، ويعلمون بالحدس والمعرفة المسبقة أن منتجات البشر لا بدّ لها من صانع بشريّ، فكما يصنع الرجل "البدائيّ" (مع التحفّظ على الوصف) إبرة من عظام الحيوانات، فإنه يعرف معرفة اليقين أن أبسط الأشياء صناعة وإنتاجا، ومن باب أولى، أكثرها تعقيدا وصعوبة، لا بد لها من صانع، وأنّ عجْزَه عن صنع مثلها لا يُبلور ""أبدا"" فكرا ينكرُ صانعها.
* أما الزاوية الثانية وهي ما تفسّر الأولى من منظور آخر، هي:
تقدّم الوعي على وجود الشيء أو تأخّره عنه.
- فالفرق بين أن تكون صانعا لشيء وبين أن تكون مصنوعا هو:
1- في حالة كونك صانعا: يكون وعيك "كصانع قادر وضروريّ" لصناعة الشيء، سابقا لوجود الشيء. وبهذا لا يُمكن البتّة تصوّر شيء مصنوع بمنأى عن تصوّر ضروريّ وقبليّ لصانعه.
2- أما في حالة كونك مصنوعا: يكون وجودك سابقا لوعيك، فتخرج للعالم بكل ما فيك من إعجاز وإتقان، لا تعيه، حتى تطّلع على المعارف الجزئية التي توصلت لها البشرية في زمانك، بعد أن تألَف كيانك وجسدك والكائنات الرائعة من حولك، وهذا يعطيك "وهـْـــــــــماَ" متجذّرا في نفسك البشرية، بأن وجودك ""قد"" يكون مستغنيا عن كل تصميم وإبداع وإتقان وغائية.
وبما أن الإنسان لا يتذكر نفسه وهو عدمٌ كما تذكر "الإبرة" التي كانت عظمة، وهي عدم قبل أن يصنعها، فقد يسهُل عليه أن يستنتج أنهّ صُنع –هكذا- دون خالق ودون إتقان !
* الزاوية الثالثة: استمرارية صناعة البشر للأشياء
- مشاهدة الإنسان لطرق الصناعة والمنتجات الجديدة في كل مرة، يجعله شاهدا على عملية "الخلق" من مواد لا علاقة لها بالنتيجة النهائية للمنتوج. وهذا التداخل بينه كصانع وبين المصنوعات يقوّي لديه منطق "وجوب الصانع" واستحالة أن تصنعَ الأشياءُ نفسَها.
خلافا للتمايز والتباعد بين الإنسان كصانع وبين المخلوقات الأخرى، التي خلقها الله تبارك وتعالى، وقد وُجدت قبل الإنسان، وانتهى تخليقها، ولا نرى منها إلا التكاثر اليوم. وهذا التكاثر الذي يدخل في منظومة الخلق، وإن كان معجزا ودليلا كافيا لكثير من الناس، إلاّ أنه لا يرقى إلى مرتبة شبيهة بتخليق مخلوق غير موجود أصلا.
- وهذا شبيه بصناعة برنامج حاسوبيّ (الخلق ابتداءً) ونسخه بطرق حاسوبيّة على القرص الصلب (تكاثر الكائن الحيّ)، إذ أن طريقة "التناسخ" في حالة البرنامج لا تبلغ من القوة ما بلغته الصناعة الأولية من قوة برهانيّة على ضرورة الصانع والمصمم".
وبعد هذه التأملات، يبدو جليّا ارتباط الفكر بمقوّمات النفسية البشرية وطريقة إدراكها للعالم. ويصعب تصوّر فكرٍ مجرّد ومتحرّر من أي تأثير نفسيّ مهما سعى الإنسان لذلك، كيف لا والمنظار الذي يرى به العالم هو نفسه المنظار الذي يريد أن يراه !
__________________________________________
(الصورة من صفحة nicole rolin الشخصية) صناعة إبرة من عظمة
واقرأ أيضًا:
ملحد ملحد بس تتعالج مشاركة / جدال الملحدين .. ووسواس الإثم / بالسيلوجيزم إثبات وجود الله يقينا / الانتحار والإلحاد والعنف.. ثلاثية مترابطة / الإلحاد ليس المشكلة / إلى الملحدين العرب!