في خطبة الجمعة في مكناس (وهذا في كل المدن على ما أظنّ)
خطب الخطيب خطبة طيبة عن الصدقة وحضّ الناس على التصدق وعاب عليهم البخل حتى بغطاء يدفّئ المتشرّدين (المسجد زخارفه وثريّاته ستاوي الملايين، فالأولى إنفاق ذلك في مجالات أنفع للعباد، أعي أن الإمام ليس مسؤولا عن ذلك، وأعلم أيضا احتمالية ضياع الجانب الفني وحِرف الفنيين، ولكن ربما إن تحسّنت أحوال الناس رأينا أضعاف ذلك من الإبداع!)
المهمّ... قال أشياء من قبيل: أن الكثير من الشرور سببها عدم التصدق والإحسان... في فصل جديد من المعارك السرمدية بين السبب والنتجية في الخطاب الديني! وتفسير كلِ خطيبٍ للواقع المعقد جدا بورقة بين يديه مكوّنة من بضعة أسطر ومعصية يستنكرها !
ثم ذكر قصّة في فضل عمل الخير وأن الله لا يضيع أجر المحسنين، أسردها باختصار ثم أعلّق عليها:
- كان رجل في السعودية قديما، ذو مكانة اجتماعية وله مال، وكان رجل في ضائقة حمّل بضاعة على جمل ثم قال للتاجر أمهلني، فقال مستحيل، كيف وأنا لا أملك ضمانة، فردّ بضاعته.. فذهب الرجل الفقير لجماعة من الناس وطلب ضمانة إلى مهلة، فلم يكن يعرفه أحد بينهم، وقبِـل الرجل ذو المكانة أن يضمنه...
فمرّت الشهور ولم يعد الرجل، فساء حال الرجل وباع ممتلكاته لرد مال التاجر.. وضاق به الحال حتى خرج إلى خيمة بعيدا عن قومه ومستحييا...
ذات يوم جاء أمير للصيد مع رفقائه فأقاموا خيام فلمحوا ذاك الرجل وحيدا، فسأل عنه الأمير ثم دعاه ليُضايفه بعد أن عرف قصته.. فأكرمه... وبات مهموما لأن الدور عليه في إكرامه على عادة العرب، فقالت امرأته الحكيمة (هكذا وصفها الخطيب، وسنعود لحكمتها لاحقا) لا تبتئس ولنقم الليل كلّه عسى الله يفرّجها... فكان ذلك إلى الصبح... فقالت له اخرج وانظر عسى تجد راعيا تقترض منه شاتين لإكرام ضيوفك.. فقال لها وهل يرعى بجوارنا أحد ؟! فنظرت زوجته فوجدت غنما كثيرا مع راعٍ فقالت له امضِ.. فلحقه وقال له أقرضني غنما أُكرِمْ ضيوفي... قال له لا يمكنني فهذه لصاحبها ولها قصة... فقال ما قصتها؟ فحكى له أنّ رجلا قد ضمن أباه يوما فترك له الأب الغنم كجزاء له.. فقال الرجل مستبشرا أنا ذاك الرجل، وأثبت له بالهوية أنه هو... فعوّضه الله أضعاف ما ضمنه للرّجل...
انتهت القصّة... وتأثّرت الجموع وانسَكَبتِ الدموع واقشعرّت الجلود...
ولا أعلم لِمَ لا أتمتّع أنا بهذا السُموّ الروحي والدفئ العاطفي! لعلّ انسحاب كل ذلك عنّي هو ما يجعلُ الطرح عاريا أمامي دون "شفاعة عاطفية" تحت نظرة باردة قاسية ...
نعود لفكرتي عن القصة... وإن كان البعض يظنّ أن نقد الوعظ والخطابَ الدينيّ في "بعض" جوانبه لا يكون إلا من مارقين عقلانيين لا يفهمون الدين وشرائعه، فأقول لهم ستكتشفون أن النقد يمكن أن "يكون أكثر إسلاميّة من الإسلاميين"!
- أولا: هل معنى الإيمان أن يكون الإنسان ساذجا ؟
هذا ما تُعلّمنا القصة، كن ساذجا بأن تضمن رجلا لا تعرفه ولا تعرف أصله ولا مكانه، لأنّك تتوكل على الله وتفعل الخير لوجهه!.. وبهذا المجتمع الإسلامي سيكون جنة النصابين وجحيم المغفّلين..
فأين نجد في دين الله مثل هذا ؟ كيف وقد أمر الله أن يتكاتب المتداينون بينهم وهو يعرفون بعضهم بعد ترجيح مصلحة التداين أو التجارة وإلا فلا إقدام على مفسدَة.
وفي القصة... لا علم بحال الرجل، ولا حذر (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) ولا تكاتب ولا شيء.. سوى سذاجة وتهور.. !!
- ثانيا: المرأة "الحكيمة" العظيمة والتي انتظرتُ أن ترشده لحلّ قالت له تعال نقم الليل !! طبعا ما دامت دعوةً للصلاة وقيام الليل فذلك قمة الإيمان والتعلق بالله !! ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، أننكر قيام الليل!؟ أنترك القيام ونفكر ونسعى لحلٍّ ونذهب عند أهل القرية ونتّصل بالمعارف ! أنفعل كالزنادقة الذين لا يؤمنون بأن الله سميع قدير !!! بهذا تكون الدعوة لإقامة الصلاة والخشوع في لحظة خوف وقتال قمّة الفقه والإيمان والحرص !
لا مشكل في قيام الليل إن كان عادة، ولكن أن يُذكر في القصة "كحلّ حكيم" مخصص للمشكل يعطي أبعادا أخرى للصلاة والدعاء.
والكارثة أن بعد قيام الليل ماذا؟ لا شيء ! سلبية في سلبية، اللهم إلا مظهر التعبد والصلاح (سلبية مقنعة بالعبادة) تقول له: الآن بعد أن قمنا الليل فاخرج لترى أثر قيام الليل ! أيْ المعجزة (أنا أنتظر صدقا من يأتيني بمثل هذا من الدين بطوله وعرضه!)
مع أن الحكمة تتجسّد ببساطة في "عدم التكلّف" (وما أنا من المتكلفين) (لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها) أليست هذه هي الحكمة ؟ لا يتكلف بدعوة أمير لا يمكن أصلا أن يبلغ كرمه، فيطبّقان الإسلام الحقيقي ويصيبا الحكمة الحقيقية ولا يخرجا عن رضى ربّهما وأيضا تسلَم عقول رواد المساجد! ولكن لا بد أن تكتمل القصة.. لكي يخرج فيجد غنما كثيرا بسبب "سذاجته الأولى" (أي من جهة هي معصية ومخالفة في الشرع، يُجازى عليها بخير عميم!! نعم التديّن والله !)
إذن كُن ساذجا (بل مخالفا للشرع) مثلَه وانتظر أن يرد الله لك ما ضاع منك أضعافا وأن يؤيّدك !!
هل هناك ضمانة في الشرع كهاته ؟ أم أن المضاعفة في الأجر (يضاعف لمن يشاء) (ليست صدقة لكي يقال لي ما نقص مالٌ من صدقة!)
-ثالثا: أين الجانب القانوي والرّدعي ؟! وكأن التصور الإسلامي للمجتمع مجرد انطباعات ومعادلات بين الخير والشرّ وسذاجة وارتجالية وعشوائية ! لماذا لم يقل لنا: وأتى والي القرية أو قاضيها، ليبحث عن الرجل المجهول لمعاقبته إن كان نصابا أو ردِّ الحق إن كان ناسيا !! (هنا يظهر التصور العربي لدور السلطة، والذي يعجز أن يراها من موقع المحاسِب، فيختلط القهر الاجتماعي والتصورات الشعبية بالتدين ونوعه ونمطه الفرديّ، ثمّ يُعاب على العلمانيين؟!)
سذاجة فكرية، ومثالية اجتماعية وسلبية تنظيميّة فوق ذلك !!
قد يظنّ البعض أن المشكلة في أن القصة كاذبة، أو يظن آخرون أنّ الله تعالى قدير على كل شيء فلم لا نصدّقها !
إن كانت كاذبة فقد لقت قبولا وهذا يدل على مشكل ما، وإن كانت صادقة فيبقى مشكلُ طرحِها "كمنهج" وخطاب شيئا مختلفا عن سردِها كاحتمالية. فهناك مثلا تجار وناجحون لم يتمدرسوا، فهل يعني أن نصعد للمنابر وفي الندوات لنقول "اتركوا المدارس فإن فلانا نجح مع أنه لم يدخل المدرسة، فافعلوا مثله ؟!!" ؟
الإشكال ليس في القصص كحالات واحتمالات، بل الإشكال الأكبر هو التنظير لبلاهة إيمانية بهذه القصص ونسج "عقل إسلامي" يصير النموذج الأمثل والويل لمن طعن أو شكك فيه، وجعلِها الأصل الذي نبني عليه تصورنا للدين والواقع وعمل الخير.
واقرأ أيضًا:
حول حقوق المرأة في اللباس / سيكولجية الإلحاد (تأمل) / يا مولانا 3% من سامعيك موسوسون