عهد التميمي فتاة من أسرة فلسطينية ذات 17 ربيعا شقراء جميلة بسيطة يبدو في عينيها الزرقاوتين نظرات تحمل تركيبة من الثقة والتحدي والجرأة والحلم والأسى والبراءة في آن واحد, وفمها مقفول في أغلب لقطاتها وكأنها تقول "لقد انتهى عهد الكلام وجاء عهد الفعل", وهي دائما تفعل ما تستطيعه, فحين كانت في الثانية عشر من عمرها رأت الجندي الإسرائلي يختطف أخاها الصغير أمام عينيها, فلم تفزع لمشهد الجنود المدججين بالسلاح ولم تهرب ولم تبك ولكنها وقفت تصرخ في وجه جنود الاحتلال وهي تتشبث بيد أخيها الأصغر قائلة: "لماذا تعتقل الأطفال الصغار", ولم تكن وقتها بالطول الذي يسمح لها أن تصفع الجندي الإسرائيلي فقامت بعضّه حتى اضطر لترك أخيها, وفازت عهد بشقيقها وبجائزة حنظلة للشجاعة عام 2012 م .
وحين بلغت السابعة عشر من عمرها تكرر الموقف في صباح الثلاثاء 19 ديسمبر 2017 م, تكرر المشهد بأن أطلق جنود الاحتلال النار على ابن عمها محمد التميمي, واقتحموا البيت بقوة غاشمة فتصدت لهم وصفعت الجندي الإسرائيلي صفعة شديدة على وجهه فاعتقلوها واعتقلوا بعد ذلك أمها حين ذهبت لحضور التحقيق معها لكونها مازالت في حكم القانون طفلة قاصر, واعتقلوا آخرين من عائلتها. وهذين الموقفين من عهد ليسا رد فعل مؤقت من هذه الطفلة الفلسطينية الشجاعة ولكنها فلسفة كرامة وعزة تحملها في عقلها ووعيها, فقد أكدت في مقابلة أجريت لها مع برنامج "دنيا" عام 2014 م أنها لا تخف مما تفعله من تصد لقوات الاحتلال الإسرائيلي, وقالت نصا : "إذا بنضل نشوف الأخبار في التليفزيون, مين بيحرر الأرض, صلاح الدين؟؟", وهي بهذ الكلمات الموجزة والقاطعة تصفع الخانعين الجالسين أمام شاشات التليفزيون وشاشات الموبايل وشاشات اللاب توب يناضلون باللايكات والشيرات والكومنتات, وتصفع أيضا من يتغنون بالماضي فقط ويتباهون بالأبطال العظام في التاريخ العربي والإسلامي ويحلمون بعودة بطل أسطوري كصلاح الدين يحرر لهم الأرض.
إن عهد التميمي مرشحة بقوة لأن تصبح أيقونة فلسطين للأسباب التالية :
1 – أنها تدافع عن بيتها وعن أسرتها وعن وطنها المحتل بأسنانها (حين عضت الجندي الإسرائيلي في 2012 م) وبيدها (حين صفعته في 2017م) . فهي لم تتعلل بنقص الإمكانيات أو عدم توازن القوى, أو بكونها طفلة وأنثى, وإنما استخدمت ما توافر لديها من عناصر ردع وهجوم فآلمت بالعض وأهانت بالصفع. وقد ثبت عبر التاريخ أنه لم تحرر أرض بكلمات أو مفاوضات بل تحررت كل الشعوب بالمقاومة المشروعة.
2 – كونها طفلة وأنثى يجعلها تعري أشباه الرجال من العرب في كل مكان الذين باعوا القضية وتاجروا وتلاعبوا بها وخانوا كل القيم الوطنية والإنسانية والدينية, وهي بذلك تطلق صيحة لفتيات فلسطين ونسائها (وكذلك العرب) بأن يهبوا للدفاع عن الأرض والعرض والكرامة والشرف ولا ينتظروا ذلك من رجال قد تآكلت أو تشوهت أو ذابت أو تحللت أو تخنثت رجولتهم على موائد المفاوضات والمقامرات والمقايضات, أو أمام الشاشات, أو في البارات والحانات أو على صفحات الجرائد والمجلات .
3 – هيئتها لا تجعلها قابلة للتصنيف الديني أو الفكري أو السياسي أو الطائفي, هي فقط فتاة فلسطينية شقراء ذات نظرات شجاعة وصارمة وحالمة وفم مغلق عن الكلام بحثا عن الفعل المباشر والمؤثر, وبالتالي يسهل التفاف القلوب حولها حيث تعجز النفوس المريضة والمغرضة عن تصنيفها بهدف تشويه قضيتها والتخلي عنها لكونها متطرفة أو إرهابية أو يسارية أو شيوعية.
4 – جاءت في وقت انكشفت فيه المؤامرات من الجميع (عرب وعجم) على قضية فلسطين وعلى العالم العربي برمته, وأصبح لزاما أن يستيقظ الأنقياء والشرفاء من فلسطين ومن الوطن العربي بأكمله لوقف هذا الانتحار والنحر العربي الذي يجري بتواطؤ الجميع.
5 – كونها في عمر بين الطفولة والمراهقة وتحمل كل هذا الوعي وكل هذه الشجاعة تشير إلى فقد الأمل في الأجيال التي شاخت وترهلت وتربت على الخنوع والخضوع والاستسلام والخيانة, وإذا كان ثمة أمل فهو في هذا الجيل الجديد الذي يحمل النقاء والصفاء والبراءة والبساطة والشعور الواضح والمؤكد بالوطن والكرامة ويحمل الشعور بالخطر الوجودي الذي يحيط بالعالم العربي بينما يتصارع أبناؤه حكاما ومحكومين صراعا عبثيا مكّن منهم أعداءهم.
5 – تحمل روح الإيجابية فهي ترفض الاكتفاء بمتابعة الأخبار في التليفزيون وترفض التغني بأمجاد الماضي وترفض انتظار الزعيم الأسطوري المخلص.
6 – الرمزية في العض المؤدي إلى إيلام المحتل والصفع على الوجه بما يحمل معاني الإهانة له والإستهانة به, وأي محتل يجب أن يشعر بأن استمراره في الاحتلال مؤلم ومكلف, وأن الشعب المحتل لا يخافه بل يهينه ويستهين به, ومن هنا يبدأ طريق التحرر.
7 – الإيثارية المتمثلة بتعريض نفسها للخطر لحماية أفراد عائلتها والدفاع عنهم, فهي لا تفكر في سلامتها فتسكت أو تهرب ولو فعلت ذلك ما لامها أحد فهي طفلة ولا يتوقع منها أي فعل في هذه الظروف.
8 – اسمها "عهد", وهذا يذكر العرب جميعا مسلميهم وأقباطهم بعهودهم الدينية والوطنية تجاه القدس وتجاه فلسطين, وتفضح الذين خانوا هذه العهود وتنصلوا من القضية الفلسطينية واعتبروها قضية هامشية وأقنعوا شعوبهم بأن الفلسطينيين أشرار متآمرين أو أنهم باعوا أرضهم ولا يستحقون التعاطف معهم.
هذه هي الروح التي يحتاجها الشعب الفلسطيني ليتحرر من الاحتلال الإسرائيلي ويتحرر من خديعة أن العالم العربي سيحرر فلسطين أو أن المجتمع الدولي سيقيم له دولته ويهديها إليه في عيده القومي, ولهذا تصبح عهد التميمي هي أيقونة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وكل المستضعفين في الأرض.
واقرأ أيضًا:
التطورات النفسية في حرب غزه –إسرائيل / الصواريخ الفلسطينية... قوة الضعف وضعف القوة / طريق يشوع: من غزة إلى بيروت