تمر الأيام وهو كما هو يعمل فى حقلنا بلا كلل أو ملل، تمر الأيام وهو كما هو على وفائه وطيبته الزائدة بينما نزداد نحن من حوله قسوة وتزداد خلافاتنا يوما بعد يوم. إنه حمارنا ولكي لا يتفاجىء أحد من السطور القادمة فهو ليس كأي حمار إنه فريد من نوعه فريد في أخلاقه ومبادئه وتصوراته لمستقبل معشر الحمير.
نشأت علاقتنا منذ كنت صغيرا بينما هو كان ما يزال (جحشا) يجرى في الشارع نلهو ونلعب مع بعضنا غير مكترثين بنظرات الحاقدين حولنا التي تحسدنا على هذا الانسجام بين معشري البشر والحمير. ثم دارت الأيام دورتها ولعبت الفوارق الطبقية عاملا أساسيا في عدم استمرار صداقتنا لكونه عاملا عندنا وأنا بن صاحب الحقل، فانشغلت عنه وانشغل عنى أيضا بالمهام الانتحارية التي كان والدي يكلفه بها.
ولكني لم أنساه يوما وهو أيضا كان يرمقني بين الحين والآخر بنظرات وكأنه يذكرني بتلك الذكريات المشردة في أرجاء قريتنا وعلى أعتاب الجيران. ويبدو أن علاقتنا لم تتوقف عند هذا الحد، فبالأمس القريب فاجئني المدعو (حمار) بأنه يريد التحدث معي عن أمور هامة لم يأمن أحدا سواي عليها، فوجئت كثيرا ، كيف يحدثني الحمار؟ ومتى نبت للحمير ألسنة بعدما سلبهم المتحدثون باسم الحكومات ألسنتهم، فأجابني وبمنتهى الرشاقة التي لم أعهدها عليه.
أتعلم يا (صديقي) أنكم معشر البشر تستخدمون لغة غريبة ؟
لقد بذلت مجهودا كبيرا أكثر عندي من حمل طن برسيم حتى تعلمتها، فقط كنا نفهمكم عندما ترفعون أصواتكم ولولا هذه العادة البشعة ما تعلمت لغتكم.
هنا أدركت سر هذا الحمار فدائما كان يرمى بأذنيه الطويلتين كلما تشاجرت مع اخوتي بسبب ذاك
(الشراب) اللعين، فهم يأتونني (بفردتين) مختلفتين دائما ، كنت أشعر ساعتها بأنه يريد أن يشاركنا
(الحوار)
هنا قطع الحمار حبل أفكاري عندما أخبرني أن البشر يسيئون إلى قومه في كثير من الأشياء التي لا يرضون عنها. قال لي :تصفون قومنا بالغباء، وهذا ظلم لنا يا سيدي ألا ترى أنى أعرف طريق الحقل وحدي فأحمل أمتعتكم وأنتم مغمضون أعينكم ، ألا أميز أصواتكم فأعرف متى أقف ومتى أتحرك ومتى أقوم إن كنت جالسا ؟ ألا تسمون هذا برستيج في عرفكم؟ بكل صراحة تؤلمني تلك النظرة التي تنظرون لنا بها ...
كيف تصفونا بصفات لم تعرفوها إلا من خلال زويكم!
هنا نظرت إليه وقد بدت علامات استفهام كثيرة على وجهي، ويبدو أن هذا الحمار ليس بارعا فقط في الدفاع عن (قومه) فقد نظر لي نظرة متفحصا تقاسيم وجهي أدرك منها تعاطفي معه واندهاشي من بلاغته،
فأكمل حديثه مشيرا إلي أن أركب ظهره، ففعلت على الفور .
وما أن ركبت ظهره حتى قللت من شأنه في نفسي فقلت إنه مثل أي حمار أركب ظهره وأفعل له برجلي هكذا وأوجهه أينما أريد، وهنا شعر الحمار بما في نفسي فقال لي:
تظنون أنكم عندما تركبون ظهورنا بأنكم تتحكمون فينا، ولكنكم حمقى بما فيه الكفاية ولا تفقهون شيئا!
هذا يسمى في عرفنا كما في عرفكم تبادل المصلحة (الشيء مقابل الشيء)
أنتم تطعمونا وتحموننا ونحن في المقابل نؤدي إليكم خدماتنا،على الأقل لسنا كحكامكم الذين يحمون إسرائيل وأمريكا ولا يستفيدون منها سوى الإهانة والإحراج، فقط بمنتهى البساطة برر هذا الذكي ما يحدث حتى ألفت نظرته للأمور واقتنعت بها، وبدأت مشاركته الرأي في الكثير مما يقول، وفى منتصف الطريق انتابته حاله من الضحك الهيستيري حتى كاد يوقعني من على ظهره، لولا أنني تداركته بالسؤال عن سبب ضحكه فقال لي: أتعلم أننا معشر الحمير قد فرحنا كثيرا عندما غنى أحدكم(بحب الحمار.... بجد مش هزار) وأخذ يضرب بحوافره في الأرض وهو يغنى الأغنية (الشعبانية) حتى كدت أشك مرة ثانية في قواه العقلية، ولكنه قطع ضحكه بأن قال: لكنه قد أحزننا مرة أخرى عندما غنى بأنه يحب عمرو موسى وحسنى مبارك!!
كيف يقرن اسمنا بهؤلاء الذين باعوا الجمل بما حمل؟ وضرب بحافره في الأرض حتى بدت بها حفرة عميقة.
فأخبرته لا عليك..فقد تعودنا على ذلك، ليس بأيدينا شيء
هنا نظر لي كما ينظر أحدنا للحمار الغبي!
كيف تقول هذا ؟ ما هذه السلبية؟ والله ما أضاعكم غيرها
ذكرتني بجحا وجدي الحمار الأكبر..من سلبيته حتى يرضي كل الأذواق ركبنا تارة وسحبنا تارة وحملنا مرة أخرى، وهنا نظر إلى بابتسامة ساخرة:
هل رأيت فقد ركبناكم أيضا؟!
..ولكننا لا نتندر بها كما تتندرون بركوب ظهورنا.
نحن لا نطعن أحد في ظهره يا سيدي...
ولا نضع العدسات اللاصقة لنخفى لون أعيننا...
ولم نصنع قنبلة ولم نقتل أحد ، فقط نعض ونرفس إذا أفزعتمونا!
ما ذنبنا إذا كنتم لا تحترمون إلا منطق القوة، ولا ترضخون إلا للظالمين..
ما ذنبنا يا سيدي؟!
بعد هذا المشهد الدرامي..
شعرت برغبة شديدة بأخذ هذا الحمار بين زراعي وأقول للعالم كله بأني أريد إنسانا بهذه المواصفات، وإن لم أجد فقد اخترت هذا صاحبا، ثم رجعنا إلى المنزل وأقصى ما أتمناه أن يصاب بنى البشر بحالة حمار
فلا زيف ولا قتل ولا أخذ لحقوق الآخرين.
أقولها يا سادة وأجرى على الله
أنني أفضل مصاحبة هذا الحمار عن مصاحبة الكثير من حمقى بنى البشر.
لو كان الأمر بيدي يا حماري العزيز لجعلتك أمينا عاما للأمم المتحدة!
واقرأ أيضاً:
الحمار والمزرعة (حامد عرب) /حمار العمدة / قصه حمار / احترامي للحمير!! / على رأسي فانوس ! / الذي لابد منه / أنا شخصٌ جميل لا يشبهني! / رأيتُ فيما يرى النائم