براج - يوليو 2018 ، جسر الملك تشارلز لا زال منتصبا فوق نهر فلتافا، يقاوم الزمن ببواباته العتيقة وشحاذيه الساجدين، وتماثيل العذراء والمسيح المصلوب تزين جانبيه، وأنا تحته أتفقد محلات الهدايا التذكارية في ذلك النفق المزدحم الموازي للنهر، أسأل "عبد الله" بائع الهدايا التونسي عن تلك اللفافة الخضراء الموضوعة أمام (الكاشير)، هل تحتوي على الحشيش حقا ؟؟ لم يكن السؤال استفهاميا بقدر ما كان "يفيد التعجب"، فالعبارة المكتوبة على غلاف العبوة لا تدع مجالا للشك: "100 % قنب"، لكنني أسأل إن كان هذا أمرا عاديا هنا، ويجيب البائع ببساطة : "نعم إنها شركة مقرها هولندا .. هم يغيرون القوانين كثيرا، لا أدري إن كان تعاطي الحشيش قانونيا أم لا، لكن الجميع يدخنون، والشباب "يتكيفون"، ومعظمهم عاطل لا يعمل !!"
رفع كتفيه علامة على الاستنكار، تركته و مضيت إلى سبيلي عائدا إلى مقر المؤتمر، كانت هناك جلسة مسائية بمؤتمر الطب النفسي للأطفال والمراهقين أردت أن ألحق بها بعد جولتي في المدينة، وكانت – بالصدفة – تدور حول تقنين الماريجوانا والحشيش في بعض الدول الغربية، والجدل الدائر بين مؤيد ومعارض، تذكرت عنوانا رأيته منذ شهور على موقع "مصراوي"، عن احتفال الكنديين بـ "يوم الحشيش"، واجتماعهم أمام البرلمان رافعين راية الحشيش ليطالبوا البرلمان بإنجاز ما وعد به رئيس الوزراء (الذي لا يكف بعض أصدقائي عن امتداحه و إن لم تكن هناك مناسبة) من تقنين الحشيش ونقله من دائرة المحرمات إلى دائرة المباحات (وربما المستحبات).
ثم توالت على ذهني محرمات أخرى كثيرة لم تعد كذلك، ففي خلال نصف قرن أو أقل، انتقلت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، والشذوذ الجنسي، وتغيير الهوية الجنسية وأشياء أخرى كثيرة من دائرة المحرم أو المكروه إلى دائرة المباح (وربما المستحب) في عرف الحضارة الغربية، ومن ورائها يسير العالم مغمض العينين، لأنها الأخت الكبرى التي تعرف ما ينبغي عمله، وهناك قائمة طويلة من المحرمات تنتظر الإذن بالظهور والتحول من "منكر" إلى "معروف"، كالإجهاض والانتحار وتعاطي الحشيش والهيروين، بل إن إعلانات مجهولة المصدر قد بدأت في الظهور في بعض مدن أمريكا تدافع عن العلاقات الجنسية التي يكون أحد طرفيها طفلا قاصرا، وتدعو إلى السماح بها "لأن الحب هو الحب" !!!.
ربما تستغرب هذا الكلام وتقول إنه لا يمكن أن يحدث، ولكن يجب أن تتذكر أن هذا بالضبط ما كان يقوله الناس – حتى في أوروبا وأمريكا – عن زواج الشواذ – مثلا – منذ نصف قرن أو أقل من ذلك، وهي مدة – في عمر الأمم – ليست بالطويلة !! والحجة دائما هي الحرية، وما دام البشر –أو بعضهم- يريدون ذلك، فلا بأس، ولم لا ؟؟ والواقع أن الحضارة الغربية – على الرغم مما أنجزته من تقدم في مجالات عديدة – إلا أنها من أنجح الحضارات البشرية فيما يسمى بالتبرير، وهي حيلة دفاعية شهيرة يلجأ إليها العقل الباطن لإضفاء الشرعية والمنطقية على شيء ما يرغب هو في جعله شرعيا ومنطقيا في حين أنه ليس في الحقيقة كذلك، أي أن العقل هنا يعمل خادما للأهواء والمشاعر وليس العكس، والسر في ذلك أن الحضارة الغربية قائمة أصلا على فكرة نفي المرجعية المقدسة للصواب والخطأ، والتوسع في مفهوم الحرية الإنسانية إلى درجة يفترض معها أن ما يرغب فيه الناس – أو مجموعة كبيرة منهم – لابد أن يكون صوابا وخيرا بشكل ما.
ويتوارى هنا المفهوم البسيط المتعارف عليه بين كل البشر بلا استثناء – أو كان متعارفا عليه فيما مضى – "أنت حر ما لم تضر"، فتحديد الحرية بحدود الضرر والضرار أمر فطري وبديهي، ولكن المفاهيم الغربية للضرر هنا في حالة انكماش دائم وتراجع مستمر تحت ضغط أهواء البشر، لدرجة ستجعلها في القريب العاجل شبه مقصورة على الضرر المباشر الموجه للآخرين كالقتل والسرقة وما شابه ذلك، مستبعدة بذلك كل أشكال الضرر غير المباشر للذات وللمجتمع وللأجيال القادمة وللبشرية بشكل عام.
فإذا أخذنا على سبيل المثال مجموعة المحرمات المتعارف عليها بين الأديان والنظم الأخلاقية القديمة لتنظيم الحياة الجنسية، من تحريم للجنس خارج إطار الزواج وتحريم المثلية الجنسية والإجهاض وتغيير الهوية الجنسية ... إلخ، فسوف نجد أن لهذه المحرمات هدفا واضحا وهو الحفاظ على مؤسسة الأسرة كحاضن أساسي للاجيال الجديدة، وتوجيه الطاقة الجنسية في مجرى واحد لاستخدامها كدافع لتحمل أعباء الحياة الأسرية وتربية الأطفال وغير ذلك من المسؤوليات.
ولكن الحضارة الغربية قد تحللت من معظم هذه المحرمات وهي في طريقها للتحلل منها جميعا، وهي تغمض عينيها عامدة عن النتائج الكارثية لها التحلل، مع أنها واضحة وضوح الشمس في الإحصاءات التي تحذر من تناقص الخصوبة وانخفاض معدل المواليد وتناقص الموارد البشرية خاصة من الشباب والأجيال الجديدة في تلك المجتمعات، في مقابل ارتفاع في نسب كبار السن المحتاجين للرعاية والتقاعد، حيث تقول الأرقام إن معدل الخصوبة الحالي – ببساطة – يقضي على الحضارة الغربية بالفناء وربما يهدد البشرية بأسرها على المدى الطويل، إذ لا يمكن لحضارة بشرية أن تستمر بدون بشر!! ،
وعلى الرغم من اعتراف الكثير من المراقبين بهذه الكارثة (انظر التحليل المرفق بالرابط كمثال......) إلا أن أحدا لا يجرؤ على الربط بين هذه المشاكل وبين التحلل الأخلاقي في مجال العلاقات الأسرية، ويمكن تعميم نفس المبدأ على إباحة الخمر والمخدرات والتي تؤثر سلبا – بلا شك – على الطاقة العاملة لأي مجتمع إذ تحول كثيرا من الشباب إلى كم عاطل لا هم له إلا الحصول على "الكيف" و"المزاج"، وقد قطعت معظم الأبحاث العلمية بأن تناول الكحول بأي كمية له أضرار تفوق كل ما يمكن أن ينتج عنه من منافع، ولكن أصدقاءنا في الغرب لا يزالون مصرين على أن (الشرب الاجتماعي) لمن تجاوزوا سن الثامنة عشرة لا بأس به، ولا بأس أيضا لمن هم دون الثامنة عشر أن يزوروا أوراقا أو يشتروا الخمر عن طريق وسيط ليجربوا ما يجربه الكبار !!
والطريف أن المجتمعات الغربية تلجأ إلى حيلة ساذجة للغاية للتغلب على مشكلة تناقص الأيدي العاملة فيها، فهي تفتح أبوابها – بشروط طبعا – للمهاجرين من الدول "النامية" لتجذب إليها خيرة شباب هذه الدول، "لتطعم" بهم آلتها الحضارية الجائعة للعنصر البشري، و"تسكن" بهم أعراض الشيخوخة والانهيار التي تدب في أوصالها، ولكن الأنكى أنها مع ذلك تبذل كل ما في وسعها ليذوب هؤلاء في مجتمعاتها، ويتشربون – أو يتشرب أبناؤهم أو أبناء أبنائهم – "بقيمها" الحضارية "المتحررة"، تلك القيم التي أدت إلى المشكلة الأصلية التي جاءوا لحلها !!
ليس ذلك فحسب ، بل إنها – أي الحضارة الغربية – تسعى بكل جهدها لنشر تلك القيم "المتحررة" في البلدان المتخلفة الأصلية التي جاء منها هؤلاء المهاجرين إلى درجة قد تؤدي إلى حدوث نفس المشكلة – أي تناقص عدد المواليد – في تلك البلدان التي تعمل – حتى الآن – كمصانع بشرية تنتج البشر وتصدرهم إلى بلاد الغرب، وإذا كنت قد قرأت التحليل المرفق بالرابط أعلاه فربما لاحظت أن التحليل يتحدث عن انخفاض عام في مستوى المواليد على مستوى العالم بأسره وإن كان أقل نسبيا في البلدان "غير المتحضرة" !!
فهل صارت بلاد الغرب – ببريقها الأخاذ وحضارتها "المتحررة" - نجما عجوزا يخدع ببريقه من حوله، ويتحول تدريجيا إلى ثقب أسود يبتلعهم .. ويجرهم إلى الفناء والضياع ؟؟
واقرأ أيضًا:
اعرف طبيبك .. بين المخ والأعصاب والطب النفسي / بين تقنين المخدرات، وتقنين الجنس مع الحيوانات...