تغيرت آراءُ الناس في معظم المجتمعات البشرية في البدانة خلال العقود الأخيرة، فبعدما كانت البدانة مرادفًا للصحة الجيدة في الرجال وللجمال في النساء، وباعثًا على توقع الأصل الطيب وربما الثراء، باعتبارها دليلاً على وجود كافة المأكولات في متناول اليد والفم؛ ولم تكن هناك حاجة لخبراء الرشاقة ونصائحهم "الجافة"!
غير أنه ومنذ عدة عقود بدأت الشبهات تحوم حول البدانة، باعتبارها انحرافًا مرضيا، وبدأ الأطباءُ من مختلف التخصصات يحذرون مرضاهم من البدانة، ومع تزايد الاتهامات الطبية، وضعت البدانة في قفص الاتهام، وسيطرت أحلام النحافة على العقول، وباتت البدانة مرادفًا لأمراض عديدة تصيب الإنسان سواء في المجتمعات الشرقية أو الغربية، ولم تَعُد قضية تشغل النساء وحدهن، فقد باتت تشغل الرجال كما تشغل النساء، بل إنها أيضًا أصبحت خطرًا يهدد الأطفال بشكل متزايد، ويشير الاتحاد الأمريكي للبدانة إلى أن أكثر من نصف النساء وثلثي الرجال في بريطانيا يعانون من زيادة الوزن Overweight
بينما يعاني منه أكثر من ربع البالغين في الولايات المتحدة وخُمس الأطفال، ومشكلة البدانة المفرطة لم تَعُد قاصرة على دول الغرب ذات الأنماط المعيشية المرفهة فقط، بل تعدتها إلى دول شرقية مثل روسيا والصين فتفشت فيها البدانة بمعدلات تدعو للقلق، فعلى سبيل المثال تذكر دراسةٌ حديثةٌ أن معدلات البدانة بين الأطفال في روسيا وصلت إلى 16%، وإلى 13% في بريطانيا، و16% في تايلاند، وفي كل من البرازيل ومصر إلى14%، وهذه النسبة الأخيرة تكاد تكون عامة على مستوى الدول العربية، وتؤكد الدراسة أن الإفراط في تناول الطعام والوجبات الغنية بالدهون هو السبب الرئيسي على مستوى العالم.
بهذه المعاني (بعد تصرفٍ مني) والأرقام قدم محسن الصياد لمقالٍ بعنوان "بين البدانة والنحافة.. العالم مشغولٌ" في إحدى صفحات حواء وآدم على موقع إسلام أون لاين، والحقيقةُ أن ما كتبهُ ذلك الكاتب يعبرُ بصدقٍ عن ما حدثَ خلال العقود الأخيرة، فقد كنتُ شخصيا في طفولتي أسمعُ وصف الناس للشخص البدين بأنهُ صاحبَ صحةٍ قويةٍ أو أنه ذا جسد سليم، وكنتُ في أواخر مراهقتي أسمعُ عكسَ ذلك تقريبًا مثل أن البدانة دليلُ مرض لا دليل صحة، وظللتُ طوال سنوات دراستي للطب أسمعُ من أساتذتي وزملائي نفس الشيء، وظللت بعد عملي كطبيبٍ نفسي أرددُ نفس المقولات التي تعلمتها مثل أن استمرار البدانة يمثلُ تهديدًا دائمًا للصحة وأنها تسببُ أمراض القلب والمفاصل وكذلك السكر وارتفاع ضغط الدم، ولم أكن أتوقعَ أن يتغير عنديَ هذا الرأي قبل كتابة هذا الكتاب، عندما وجدتُ نفسيَ مضطرًا للبحث في الموضوع، وسوفَ أقدم في هذا الفصل نتائجَ ذلك البحث لكي أوضحَ للقارئ العربي حقيقة الموقف الطبي من البدانة، وذلك من خلال سؤالين هما هل البدانة مرض؟ وهل البدانة اضطرابٌ نفسي؟.
هل البدانةُ مرض؟
هذا هو أول سؤال يتبادرُ إلى الذهن هنا هل البدانةُ مرضٌ أصلاً؟ وهوَ سؤالٌ يرددهُ الكثيرونَ من العقلاء في أيامنا هذي التي أصبحت فيها مشكلةُ الوزن وتجارةُ أنظمة الحمية المنحفة وأدوية تثبيط الشهية واحدةً من أكثر القطاعات الاقتصادية جذبًا لأموال الناس، فوسائلُ الإعلام على اختلافها تتكلمُ عن البدانة باعتبارها مرضًا، وشركاتُ إنتاج الدواءِ تتكلمُ عن البدانة أيضًا باعتبارها مرضًا خطيرًا، كما أن المنشورات التعليمية سواءً الموجهة للأطباء أو العاملين في مجال الصحة أو حتى لعامة الناس تعتبرها مرضًا، وكذلك افتتاحيات العديد من الدوريات الطبية المحترمة تعتبرها مرضًا.
وعلى العكس من ذلك يتساءلُ الكثيرونَ في الدوريات الطبية هل من الإنصاف اعتبار البدانة مرضًا بالشكل الشائع، ومن الطريفِ أن كلاًّ من الذين يشيرونَ إلى البدانة باعتبارها مرضًا والذين يشككونَ في صحة اعتبارها مرضًا، كلاًّ من هذين الفريقين لم يقدم تعريفًا عامًا محددَ المعالم للمرض ولم يحاول أحد أن يفندَ البدانةَ وما يصاحبها من أعراضٍ وعلامات ليرى ما إن كانت تنطبقُ عليها صفات المرض أو لا؟!.
وبينما اشتملَ تصنيفُ منظمة الصحة العالمية التاسع ICD-9 للأمراض على فئتين للبدانةِ أحدهما هيَ البدانةُ المرضيةُ Morbid Obesity والأخرى هي البدانةُ غير المعينة بشكلٍ آخرNot Otherwise Specified Obesity ، فقد احتوى التصنيفُ العاشرُ ICD-10 في فصله الرابع (أمراض الغدد الصم والتغذية والاستقلاب) على فئةٍٍ للبدانة باعتبارها حالةً قد تصاحبُها الأمراض أو أنها تمثلُ عاملَ خطورةٍ للعديد من الأمراض، ومن المفيد أن نلاحظَ أن التصنيف العاشر لمنظمة الصحة العالمية كما يوحي عنوانهُ ليسَ تصنيفًا للأمراض فقط وإنما أيضًا للمشاكلِ المتعلقة بالصحة International Statistical Classification of Diseases and Related Health Problems أي أن البدانةَ قد لا تمثلُ مرضًا في حد ذاتها.
وما تحملنا إليه محاولةُ الإجابة على هذا السؤال هوَ البحثُ عن تعريفٍ للمرض لأن إيجاد تعريفٍ للمرض ليسَ أمرًا سهلاً بل هوَ مشكلةٌ تاريخيةٌ مزمنةٌ في الطب ليسَ أقلَّ منها محاولة تعريف الصحة، فعندما نعرفُ المرضَ بأنهُ عكس الصحة أو غيابُ الصحة فإننا لا نعرفُ شيئًا لأن الصحة نفسها مفهومٌ غير محددِ المعالم بشكلٍ قاطعٍ نهائي ومتفقٍ عليه! فالصحةُ كما تعرفُها منظمةُ الصحة العالمية الصحة هيَ حالةٌ من الرفاهة الجسدية والنفسية والاجتماعية التامة (وكأنها تحدثنا عن ما يشبهُ الحياةَ في الجنة) فهذا التعريفُ يكادُ يكذبُ كل من يدعي الصحةَ في أيامنا هذه على الأقل!، وأستطيعُ أن أقول أن محاولةَ تعريفِ كلاًّ من الصحة أو المرض بالاعتماد على الآخر هيَ محاولةٌ محفوفةٌ بالمخاطر.
فهل المرضُ هوَ وجود الشكوى؟ أي أن من يشتكي من عرضٍ جسدي أو نفسي دونَ اشتراط وجود اعتلالٍ أو تغيرٍ تركيبي في الجسد هو مريض؟ أم المرضُ هو وجود اعتلالٍ تركيبيٍّ في الجسد بغض النظر عن الشكوى؟، فهناكَ من لا يشتكي من أي عرضٍ بينما يوجدُ ورمٌ خبيثٌ في مكانٍ ما من جسده، وهناكَ من يشتكي من انقباض صدره أو انسداد حلقه أو عدم قدرته على الإبصار بينما تثبتُ جميعُ التقصيات الطبية خلوهَ من أي عيبٍ جسديٍّ تركيبي! وهناكَ من لا تجدُ فيه لا الشكوى ولا العيب التركيبي الجسدي بل هوَ يحسُّ نفسهُ في قمة الرفاهة الجسدية والنفسية والاجتماعية بينما هوَ في نظر المجتمع والطبيب النفسي يمرُّ بنوبة ابتهاجٍ مرضية Bipolar I Disorder , Mania ، هناكَ إذن مشكلةٌ في تعريف المرض، فعلى أي شيءٍ نعتمدُ في تعريفنا للمرض، سنجدُ العديد من الإجابات ولكنَّ واحدةً منها لا تستطيعُ أن تشمل كل ما يعرفه الأطباءُ أو ما يدرك الناسُ في كل مجتمعٍ أنهُ مرض، وبالرغم من ذلك فقد قام باحثان غربيان، بمقارنة مجموعةٍ من التعريفات الدقيقة المختلفة للمرض واستنتجوا منها النقاط التالية كخطوةٍ أولى للإجابة على سؤال هل البدانة مرض؟
فالمرضُ هوَ
-أ- حالةٌ تصيبُ الجسد أو جزءًا أو عضوًا منه أو أحد أجهزته الحيوية، وتتسمُ بتغيرٍ ما.
-ب- تنتجُ هذه الحالةُ عن العدوى بالميكروبات أو الطفيليات أو عن أسبابٍ غذائيةٍ أو بيئيةٍ أو وراثية أو غير ذلك.
-ج- تتسمُ هذه الحالةُ بمجموعةٍ متميزةٍ ومحددةٍ وواضحةٍ من الأعراض أوالعلامات Symptoms or Signs.
-د- تؤدي هذه الحالةُ إلى انحراف عن التركيب الطبيعي أو الوظيفة الطبيعية.
وقبلَ أن نبدأ في مطابقةِ البدانة بهذه الشروط الأربعة، علينا أولاً أن نحددَ البدانةَ التي نقصدها، فهيَ حسبَ أكثر التعريفات شيوعًا التجمعُ المفرط للدهون في الجسد (والمفرطُ تعني أكثر من 25% من جسد الرجل وأكثرَ من 32% من جسد المرأة)، أو أن يكونَ مُنَـسَّـبُ كتلةِ الجسم Body Mass Index أكثر من 30 ويحسبُ منسبُ كتلة الجسم بقسمة الوزن بالكيلو جرام على مربع الطول بالمتر، وعند هذا الحد من زيادة الدهون في الجسم فإن هناكَ العديدُ من الأدلة على أن البدانة (بالمستوى الذي حددناه) تعتبرُ عاملَ خطورةٍ حقيقيٍّ على الصحة، فقد أظهرَت تصاحبًا دالاً إحصائيا مع أمراضٍ مثل الضغط والسكري والذبحة الصدرية والتهابات المرارة وغير ذلك من الأمراض التي تزيدُ من احتمالية الموت في سن مبكر أي أن البدانةَ بهذا القدر بالفعل قد تمثلُ عاملَ خطورةٍ على الحياة، لكنَّ الأمرَ ليسَ كذلك في كل ولا حتى في معظم الأحوال فهناكَ العديد من الأشخاص يعيشونَ حياتهم كلها وهم داخل حدود البدانة وربما حتى البدانة الشديدة دونَ أن تصيبهم أيٌّ من الأمراض المشهورة بمصاحبتها للبدانة.
فإذا نظرنا إلى البدانةِ في حد ذاتها في ضوء شروط المرض التي ذكرناها فسنجدُ أن الشرط "أ" منطبقٌ على البدانة حيثُ أن التجمعُ المفرطَ للدهونِ يعتبرُ تغيرًا يصيبُ الجسد، ونفس الكلام ينطبقُ على الشرط "ب" فالبدانةُ تنتجُ من أسبابٍ غذائيةٍ وبيئيةٍ وأحيانًا وراثيةٍ وربما حتى بسبب الإصابةِ بفيروسٍ ما، فإذا أتينا إلى الشرط ج فسنجدُ أن العرضَ والعلامةَ المميزةَ والمحددةَ والواضحةَ (بمجرد النظر في معظم الأحيان) هيَ البدانةُ نفسها!
أي أنهُ ليست هناكَ علاماتٌ تميزُ الحالةَ إلا زيادة الدهون في الجسم أي البدانةُ نفسها، فلا نستطيعُ أن نقولَ مثلاً أن هناكَ ارتفاعٌ في ضغط الدم لأن ذلك ليسَ موجودً في كل بدينٍ وليسَ مقصورًا على المصابينَ بالبدانة، ولا نستطيعُ أن نقولَ أن هناكَ ارتفاعًا في دهون الدم لأن ذلك ليس مقصورًا على الشخص البدين وليسَ موجودً أيضًا في كل شخصٍ بدين، وكذلك لا نستطيعُ أن نقولَ أن هناكَ بروزًا للكرش مثلاً، أي أننا في النهاية سنجدُ أن انطباقَ الشرط الثالث من شروط المرض يحملُ نوعًا من التكرار الذي لا معنى له فعرضُ البدانة هو البدانة وعلامةُ البدانةِ هيَ البدانة!
وأما الشرط "د" أي الانحرافُ عن التركيب الطبيعيِّ أو عن الوظيفةِ الطبيعية فإنهُ أيضًا يحملُ العديد من المشاكلِ عند تطبيقه فمثلاً يتراوحُ الانحرافُ عن الطبيعي من مجرد الاختلاف البسيط إلى حد التعارضِ مع الوظائف الحيوية لأجهزة الجسم المختلفة فهل كل هذا بدانة؟، كما أن المعنيَّ بالانحراف عن الطبيعيِّ في حد ذاته هو مفهومٌ غيرُ محددٍ لأنهُ قد يشمل مجردَ اختلافٍ غير مرغوبٍ فيه أو مجرد انحرافٍ معياري بسيط، هذا إذا سلمنا بدايةً بأن الطبيعيَّ هو مفهومٌ محددٌ، وهذا ما يخالفُ الحقيقةَ لأن الطبيعيَّ نسبيٌّ في معظم الأحيان.
إلا أنهُ في حالات البدانةِ الشديدةِ كالتي نراها عند زيادة منسب كتلة الجسم عن 40 يوجدُ دليلٌ واضحٌ على التعارض مع الأداء الجسدي والاجتماعي للشخص البدين وربما حتى يصلُ التعارضُ إلى حد الإعاقة، إذن فحالات البدانة الشديدة التي يزيدُ فيها منسبُ كتلة الجسم عن 40 دائمًا ما تستوفي الشرط "د"، والحقيقةُ التي لا يمكنُ إغفالها بالرغم من ذلك هيَ أن المجتمع من حولنا يحوي العديد من الأشخاص البدينين الذين لا تمثلُ بدانتهم مشكلةً بالنسبةِ لهم في أي منحى من مناحي حياتهم اللهم شعورهم بأنهم يتعرضونَ للتفرقة الجسدية الاجتماعية، فهم مثارُ سخرية أو استغراب أو استظراف المحيطين بهم، وهم ضحيةُ التحيز الاجتماعي للجسد النحيل أو الممشوق كما أنهم يعانونَ في أبسط الأشياء كانتقاء الأزياء، خاصةً في العالم الذي يسمونهُ عالمٌ نام.
وعلى خلاف ذلك إذا نظرنا إلى من يعانونَ من درجات البدانة البسيطة فإننا نجدُ معاناتهم أقلَّ وكونِ هناكَ خطورةٍ على وظائفهم أو أجهزتهم الحيوية أيضًا أقلَّ، كما نجدُ المجتمعَ أكثرَ تقبلاً لهم وهم بالتالي أقلَّ عرضةً للسخرية الاجتماعية وأيضًا للتحيز الاجتماعي ضدهم، صحيحٌ أنهم يقفونَ من الناحية الطبية على باب الدخول في البدانة الشديدة بكل ما يعنيه ذلك من تهديد لصحتهم العامة وأدائهم الاجتماعي والنفسي، إلا أنهم يضعونَ المفاهيم الطبيةَ الشائعة والشعبيةَ أحينًا في موقفٍ محرجٍ عندما يعيشونَ حياةً ناجحةً نشيطةً على كل المستويات، وكأننا وضعنا وصمةَ المرض على ما لم يكن مرضًا إلا أن كانَ من المقبولَ أن نعتبرَ –بمثابةِ المرضِ- حالةً لا تؤثرُ بالسلب مطلقًا على صاحبها على الأقل خلال فترة من حياته.
وأعودُ أيضًا لأكررَ هنا أن من الصحيح أن بعض الأشخاص البدينين قد يفشلونَ في في مجاراة الآخرين في مهاراتٍ تعتمدُ على خفةِ الوزن ، مثل صعود السلم بسرعة مثلا! أو الجري (خاصةً بسرعةٍ لمسافةٍ طويلةٍ)، ولكنَّ هذا ليسَ مقصورًا عليهم، فهناكَ الكثيرونَ من ضحايا الحياة العصرية الخاملة في عالمنا النامي وأيضًا في العالم الذي يحسبُ نفسهُ صاحيًا هناكَ الكثيرونَ لا يستطيعونَ الجريَ ولا صعود السلم بسرعة أو قفزًا، صحيحٌ أن الرشاقةَ والانسجام البدنيَّ أمرٌ مطلوبٌ، ولكنَّ غيابهُ لا يصحُّ أن يعتبرَ مرضًا من الناحية الطبية العامة (في مقابل الطبية النفسية كما سأبينُ بعد قليل).
ثم أن من الممكن في أي مجتمعٍ من المجتمعات أو أي ثقافةٍ من الثقافاتِ أن توضعُ مقاييس للجسم الرشيق أو المتناسق، ويفشلُ في الوصول إليها معظمُ أعضاء هذه الثقافة بما فيهم البدين وغير البدين، مثلما هو الحال في العديد من بلدان العالم اليوم، وإن لم تكنْ معايير تشخيص البدانة في الطب اليوم تفعلُ ذلك، فالذين يفعلونهُ هم مجموعة من تجارٍ أغذية الحمية أو أدوية الحميةِ أو أصحاب صالات التخسيس، إلا أن الهيئات الطبية في معظم أنحاء العالم أصبحت تقبلُ وجودَ تخصص طبيٍّ في الحمية المُنَحِّفة، أي أن هناكَ العديدُ من القطاعات التي ترتزقُ من خلال ما سبقَ أن بينته، ثم أن هناكَ مشكلةٌ أخرى تتعلقُ بمفهوم المرض والعرض الطبي، فمن المعروفِ أن البدانةَ عرضٌ من أعراض العديد من الأمراض خاصةً اضطرابات الغدد الصماء وبعض الزملات الوراثية، فهل البدانةُ التي هيَ عرضٌ في حالاتٍ طبيةٍ معروفةٍ، هيَ أيضًا مرضٌ قائمٌ بذاته إذا لم نجد المرضَ المعروفَ أم أنها جزءٌ منهُ أحيانًا ومرضٌ مصاحبٌ له أحيانًا؟
ولكي نجملَ ما قلناه بشأن الإجابة على سؤال هل البدانةُ مرضٌ طبيٌّ عام؟ نقولُ إن اعتبارَ أن البدانةَ أو زيادةَ كتلةِ الدهن في جسم إنسانٍ ما عن عتبةٍ معينةٍ نضعها نحنُ بناءًا على مقاييس اخترناها نحنُ أو اختارتها لنا شركاتُ التأمين على الحياة أو اختارها لنا صناعُ تجارة الجسد الجميل أو تجارُ صناعة الجسد الجميل، ونحنُ قبلناها وصدقناها، فإننا سنواجهُ ومباشرةً -كأطباءَ – عدةَ مشكلات:
-أ- إن العلامةَ أو العرضَ الوحيدَ للبدانة (أن دهنًا كثيرًا يوجدُ في الجسد)، وهذا هو نفسُ الصفة المميزة للحالة، وليستْ هناكَ علاماتٌٌ أخرى مؤكدةٌ (سريريةً أو حتى قبلَ سريرية Inevitable Clinical or Sub-clinical Signs).
-ب- هناكَ الكثير من البدينين لا يعانونَ من أي إعاقةٍ بسبب بدانتهم.
-ج- هذا الاعتبار يتجاهلُ نقطةً مهمةً ألا وهيَ الطبيعة الاحتماليةُ للبدانة بأيٍّ من الأمراض التي نتهمُّ البدانةَ بأنها عاملُ خطورةٍ لها، مع أن معنى عاملُ خطورةٍ في حد ذاته يعني أن الأمرَ لا يعدو كونهُ احتمالاً في الأساس.
-د- ثم أن هناكَ مشكلةٌ في مفهوم العرض والمرض، كيفَ تكون الحالةُ نفسها عرضًا أحيانًا ومرضًا أحيانًا بالمفهوم الطبي؟؟
إلا أن من المهم أيضًا أن أبينَ أنهُ حتى حالات البدانة الخفيفة (أي التي يكونُ فيها منسبُ كتلة الجسم قريبًا من 30)، يمكنُ أن ينطبقَ عليها بعضُ تعاريفِ المرض باعتبارها انحرافًا عن الطبيعي، فبعضُ التعاريف المعتمدةِ للمرض تعرفهُ بأنهُ أي شذوذٍ في تركيب أو وظيفة الجسد غيرُ ناتجٍ عن إصابةٍ فيزيقية مباشرةٍ (أي عن جرحٍ أو طلقٍ ناريٍّ مثلاً)، وعند هذه النقطة نجدُ أننا نعودُ مرةً أخرى لمناقشة أحد أبعاد مفهوم المرض، فهل يُعَـرَّفُ المرضُ طبيا أم اجتماعيا، فإذا كنا في حالة البدانة الخفيفة نقفُ أمامَ شذوذٍ لا يتلفُ ولا يفسدُ ولا يضعفُ، متى ولماذا نعتبرهُ مرضًا.
والحقيقةُ أن العديد من فلاسفة الطب يرونَ أنهُ لم يعد هناكَ تعريفٌ متفقٌ عليه للمرض، فالنموذج التقليدي لفهم المرض والذي كانَ يعتمدُ على مفهوم الجرثومة أو الإصابة أو الأذى، أصبحَ غير مناسبٍ لضم المفاهيم الحديثة للمرض داخل إطارٍ واحد، فمثلاً إساءةُ استعمال العقاقير والإدمان والكثيرُ من الاضطرابات النفسية هيَ حالاتٌ يوجدُ فيها شذوذٌ ما يمثلُ إتلافا وإفسادًا وإضعافًا لأداء الإنسان في الحياة لكن معظمها يعرفُ اجتماعيا أو بعد اتفاقٍ اجتماعيٍّ طبي، إلا أن الأمر ليسَ بهذه البساطةِ لأن اعتبارَ شذوذٍ ما مرضًا إنما يضع تبعاتٍ على المجتمعِ لصالح المريض تتمثلُ في جوهرها في إعفائه من المسؤولية عن حالته وكذلك إعفائه من بعض التزاماته الاجتماعية والوظيفية، وأما الالتزامُ الذي يطلبُ من المريضِ في مقابل ذلك فهو أن يسعى للشفاء أي أن عليه ألا يستمرِأ المرضَ وأن يلتزمَ بطاعة أوامر الطبيب الموكلِ إليه علاجه.
فإذا عدنا مرةً أخرى إلى البدانة، أليسَ فيما تحملهُ معظمُ المجتمعات البشرية اليوم من موقفٍ متحيز ضد الشخص البدين نوعٌ من إلقاء المسؤولية عليه، أليسَ ضمنَ مبررات المجتمع لموقفه هذا أن الشخصَ البدينَ مسؤولٌ عن بدانته؟ أليسَ هناكَ كثيرونَ يعتبرونَ الأمرَ واقعًا داخل حدود الاختيار، ألا نتهم الشخص البدينَ بالمسؤولية عن بدانته عندما نقولُ بأن البدانةَ لا تنتجُ إلا من زيادةِ الوارد إلى الجسم من طاقةٍ عن الصادر منه من طاقة؟، ألا يعني هذا أن الشخصَ البدينَ يأكلُ أكثرَ مما يجب أو أكثرَ مما يحرقُ من طاقة؟
فهل البدانةُ مرضٌ من نوعٍ مختلف أي أنها مرضٌ يتحملُ المريضُ مسئوليته، أم أن التوجهَ ناحيةَ اعتبارها مرضًا هو شيءٌ مختلفٌ عن التوجه ناحيةَ اعتبارِ أن الشخص البدينَ لابدَّ أن يسعى نحو التخلص من البدانة لكي يفي بالالتزام الذي يطلبهُ المجتمعُ من المريضِ كما ذكرتُ من قبل؟، إن إنكارَ كونِ البدانة مشكلةً صحيةً اجتماعيةً ليسَ هو المقصود من كلامي هنا، وإنما المقصود هو أن من الخطأ اعتبارها مرضًا بينما هيَ لا تفي بالشروط اللازمة لكونها مرض في كل الأحوال بالمعنى الطبي، حتى لو قلنا أن البدانةَ تعتبرُ مرضًا من أجل تنبيه الناس للتخلص منها لأنها تمثلُ عاملَ خطورةٍ للكثير من الأمراض العضوية، فإن هذا في الحقيقة قد يبررُ في يومٍ من الأيام أن تحاولَ النساءُ التخلصَ من كونهن نساء لأن من الثابت الآن في الطب النفسي أن النسوية تكادُ تكونُ عاملَ خطورةٍ للاكتئاب، أنا أعرفُ بالطبع كم الغرابة في المثال الذي أضربه، ولكنني أريدُ أن أنبه إلى ضرورةِ وضوح المفاهيم سواءً في الطب أو في المجتمع.
واقرأ أيضًا:
مسارُ البدانة من الصحة إلى المرض/ البدانة من الجمال إلى القبح/ ما هي أسبابُ انتشار البدانة؟