من الطبيعي أن تكونَ استجابة الأطفال والمراهقين للوقوع بين فلقي رحى البدانة (أو الخوف منها) والرشاقة (أو الصورة المثالية للجسد) مثلها مثل استجابة الكبار أي باللجوء إلى الحمية المنحفة، لكننا إذا تأملنا موقف الطفل والمراهق في العصر الحديث، بكل الملابسات التي تحيطُ به في عالم اليوم، ربما اقتنعنا بأن موقفه أصعب من موقف الكبار، فالأطفال (والمراهقون) هم الفئة الأكثر استهدافًا من مروجي الغذاء السريع والذين يستخدمون كل الأساليب النفسية المتاحة للإغراء، وهم في ذات الوقت أكثر ميلاً للتجريب والتجديد والتغيير من الكبار، كما أنهم مع الأسف يتعرضون أكثر من أجيال الكبار إلى الحرمان من الحياة بشكلٍ طبيعي في تلك الفترة بسبب التطور التكنولوجي المتسارع، والذي يسببُ البدانة من خلال تقليله للمجهود البدني المبذول.
ويضافُ إلى ذلك أن فترة الطفولة والمراهقة نظرًا لحتمية النمو والتغير خلالها، ونظرًا لاقتناع كثيرين (خاصةً الوالدين) بأن الوقاية خير من العلاج إضافةً إلى ما تتميزُ به فترة المراهقة من تطلع طبيعي للمثالية وتعلقٍ بنجمٍ ما وهو ما نسميه بالتوحد (أو التماهي) Identification ، كل هذه الضغوط جَعلت اتباع الحمية المنحفة بشكل مزمن يكادُ يكونُ طبيعيا في فترة المراهقة خاصةً في الإناث حيث تصل نسبة من يتبعونها إلى خمسين بالمائة من البنات كما بينت دراساتٌ غربيةٌ عديدة على مدى السنوات، ومن المعروف أن على المراهق أن يتوافقَ مع ما يطرأُ على جسده من تغيرات بيولوجية، وأن يكونَ لنفسه صورةً عن جسده وعن ذاته.
ويتخذُ الأمر أهميةً خاصةً إذا لم يكن المراهق يحظى بجسد مثالي ويظلُّ انتباههُ مركزًا على ما يعتريه من تغيراتٍ جسديةٍ بيولوجية، وتصبحُ التغيرات التي تطرأ عليه في فترة البلوغ ذات أثرٍ مهمٍّ على إدراكه لصورة جسده وهويته ويجدُ العديدُ من المراهقين صعوبةً بالغةً في التوافق مع هذه التغيرات التي تبدو لهم بصورةٍ درامية (سيد أبو زيد ،2001)، ففي هذه المرحلة ينظرُ المراهقُ لكل عضو من أعضاء جسده وكأنهُ جزءٌ قائمٌ بذاته، ويبدأُ في الفحص المدققِ لكل جزءٍ من أجزاء جسده وغالبًا ما يكونُ المراهقونَ غير راضيين عن شكل أجزاء الجسد، وهذا ما ينطبقُ على الإناث بصفةٍ خاصةٍ، وتتأثرُ صورةُ الجسد في ذلك الوقت بتعليقات وتقييمات الآخرين (علاء الدين كفافي ومايسة النيال، 1995).
بينت دراسةٌ أمريكية أن 57.6% من البنات و 24.9% من البنين يقرون باتباعهم للحمية المنحفة إما بشكل متقطع أو مزمن، كما بينت دراساتٌ أخرى أن متبعي الحمية المنحفة يتجهون بالتدريج نحو ممارسة أساليب غير صحية أو عظيمة الضرر لإنقاص الوزن وواقع الأمر هو أن نتائج معظم الدراسات تشير إلى ارتباط بداية أعراض اضطرابات الأكل النفسية بفترة البلوغ والمراهقة، وحتى في الأطفال في الآونة الأخيرة، حتى أن عشرةً بالمائة من البنات في عمر ما بين السنة الثالثة والسادسة من التعليم الأولي أقررن باستخدام أقراص التنحيف، وأقر 77% من الأطفال أنهم سمعوا عن الحمية المنحفة من أحد أفراد الأسرة غالبًا أحد الوالدين، فهم كثيرًا ما يتحدثون عن مشاكلهم ومعاناتهم مع الحمية وصورة الجسد، وكثيرًا ما يتبادلون النصح بطريقة جديدةٍ أو يعلنون من إحباطهم من برنامج حمية معين فشل منذ البداية أو فشل بعد نجاح مبدئي، كما ذكر 55% من الأطفال في تلك الدراسة أن وسائل الإعلام تعتبر من أهم مصادر معلوماتهم عن الحمية المنحفة والجسد والتغذية السليم، وأما أحدث التقديرات فيشيرُ إلى أنه في السنة التاسعة من العمر يكون 50% من الأطفال في أمريكا الشمالية قد اتبعوا بالفعل حميةً منحفةً ما!
وفترة المراهقة هيَ الفترةُ التي يسترعي الاهتمامُ بالجسد انتباه المراهق ويستحوذ عليه، وما تزالُ معظمُ الدراسات التي تهتمُّ باضطرابات الأكل تبحثُ في هذه الشريحة من المجتمعات لأنها الأكثر معاناةً دائمًا من المشاكل المتعلقة بالأكل والحمية والوزن والشكل، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت دراساتٍ تجرى على الأطفال دونَ مرحلة المراهقة أي قبل البلوغ لاستطلاع معاناتهم وأفكارهم عن الأكل والجسد.
كما أن من الملاحظ أن المرحلة العمرية التي يبدأ عندها الانشغال بهذا الأمر أصبحت في تناقص متتالٍ في السنوات الأخيرة، حتى أننا نسمع من الفتيات الصغيرات في عمر ما قبل المدرسة ما يشيرُ إلى وعيهن بوزنهن وحرصهن على أن يحافظن عليه، ولن نستغرب بعد عددٍ من السنوات إذا وجدنا من يصفُ الحمية المنحفة المزمنة بأنها طبيعية في الأطفال!.
وقد بينت دراساتٌ غربيةٌ عديدةٌ أن نسبةَ 55% من البنات و35% من البنين بين السنة الثالثة والسادسة من التعليم يرغبون في جعل أجسادهم أنحف مما هيَ، كما أظهرت الدراسات علاقةً طرديةً بين منسب كتلة الجسد وبين هذه الرغبة في النحافة والوعي بالوزن، أي أنه كلما زاد منسب كتلة الجسد كانَ الوعي بالوزن والاهتمامُ به أكبر وكانت الرغبة في النحافة والخوف من البدانة أكبر، ويبدو أن أهمية منسب كتلة الجسد في تفعيل هذه العوامل تكونُ أكبر في سنوات الطفولة منها في المراهقة كما نرى من نتائج بعض الدراسات.
وفي دراسةٍ حديثةٍ أجريت على طالبات المدرسة في أستراليا بغرض بحث المتغيرات التي تبدأ البنت في اتباع الحمية المنحفة على أساسها، تمت متابعةُ 57% من البنات في العينة المبدئية للدراسة، وهن البنات اللاتي لم يكنَّ متبعاتٍ للحمية المنحفة عند بداية الدراسة (أي أن 43% من العينة المبدئية من البنات كن متبعاتٍ لحميةٍ منحفةٍ بشكلٍ أو بآخر)، وعلى مدى سنتين من المتابعة تبينَ أن عشرين بالمائة من البنات اللاتي تمت متابعتهن قد بدأن خلال السنتين في اتباع الحمية المنحفة (أي أن النسبة وصلت إلى 67% تقريبا خلال سنتين) ولم يكن اتباعهن للحمية المنحفة مرتبطًا أصلاً بزيادة منسب كتلة أجسادهن فمعظمُ من اتبعن الحمية المنحفة خلال مدة تلك الدراسة كن صاحبات وزن طبيعي أو حتى أقل من الطبيعي، وأن زيادةً في معدلات الابتداء في اتباع الحمية تحدثُ ما بينَ الخريف والربيع (وتقل نوعًا ما في فصل الشتاء)، وأن البنات عادةً ما يبدأن في اتباع الحمية في السنة الثالثة عشر والرابعة عشر من العمر.
وتظهرُ بعض الفروق المتعلقة بالجنس بينَ الذكور والإناث، فبينما ترجعُ معظمُ الزيادة في الوزن في مرحلة البلوغ عند الذكور للزيادة في حجم العضلات نراها ترجع أساسًا في الإناث لتراكم الدهون في الفخذين والأرداف والبطن وهذه المناطقُ بالتحديد هيَ الشغل الشاغل لمعظم اللاتي ترغبن في تقليل وزنهن أو يشعرنَ بتغيرٍ غير مرغوبٍ فيه في صورة الجسد، كما أن تعليقات الأقران الساخرة تؤثرُ في سلوكيات المراهقين بشكلٍ كبيرٍ.
بينما قللت دراسةٌ أمريكية أحدثَ نشرًا عدم أهمية العمر وتعليقات الأقران إضافةً إلى عدم أهمية منسب كتلة الجسد الأصلي في زيادة الوعي بالوزن واتباع الحمية المنحفة بشكلٍ متكررٍ أو مزمن بينما أظهرت أهمية التعلق بالنموذج المثالي للجسد المرغوب في وسائل الإعلام المختلفة، إضافةً إلى الأهمية التي يعلقها الوالدان على الرشاقة.
المهم أن كثيرًا من المتغيرات جعلَت وعيَ البنت بوزنها والكيفية التي يبدو بها جسدها هما لا تكادُ تفلتُ منهُ واحدة، وسأعدُ لكم في القائمة التالية سلوكيات إنقاص الوزن التي تتبعها المراهقات في مدرستين من المدارس الثانوية العربية (وذلك من بين معطيات دراسةٍ لم تنشر بعد) حيث طلب من البنات الرد على سؤال ماذا تفعلين لكي تنقصي وزنك أو لكي تحافظي عليه؟ فكانت الإجاباتُ كالتالي:
1- ريجيم شخصي متقطع (من وقتٍ لآخر) في نسبة 75%.
2- تجنبُ الأكل ما بينَ الوجبات في نسبة 71%.
3- الخروج للمدرسة بدون إفطار في نسبة50%.
4- إهمال وجبة الغذاء أو العشاء في نسبة 30%.
5- التريض (التمارين الرياضية أو المشي) في نسبة 40%.
6- ريجيم شخصي مستمر (تقليل كمية الأكل في الوجبات باستمرار) في32%.
7- شرب كمية كبيرة من الماء قبل الأكل في نسبة 31%.
8- شغل النفس لإلهائها عن الرغبة في الأكل في نسبة 22%.
9- عد السعرات الحرارية في الأطعمة وانتقاء أغذية الريجيم في13%.
10- شرب خل التفاح أو عصير الجريب فروت على الريق في نسبة 9%.
11- الصوم يومين أو أكثر في الأسبوع (مثلا الاثنين والخميس) في 4%.
12- المتابعة مع طبيب الوزن في نسبة 3%.
فإذا عرفنا أن عددَ البنات اللذين شملتهم الدراسةُ كان 450 بنتا في سنوات الدراسة الثانوية الثلاثة، وأن من ينطبقُ عليهن تعريف البدانة من المنظور الطبي (أي منسب كتلة الجسد =30 كجم/المتر المربع أو أكثر، رغم معرفتنا بأن الأمر ما يزالُ موضعَ جدال) كن 39 بنتا أي بنسبة 8,6%، بينما كانت النسبة الكلية لزائدات الوزن بما فيهن البدينات 41,1% (أي أن 185 بنتا تراوحت منسبات كتل أجسادهن بينَ 25و29,9 كجم/ المتر المربع)، فإننا سنوقنُ -رغم وضوح أن البدانةَ مشكلةٌ حقيقية- أن المشكلة الأكبر من مشكلة البدانة هيَ مشكلةُ الخوف من البدانة المتمثل في محاولات الحفاظ على الوزن.
والنتائج السابقة تبينُ بوضوح أن عدد اللائي جعلن وعيهنَّ بوزنهن جزءًا من حياتهن وأفكارهن ومشاعرهن وسلوكياتهن اليومية يزيدُ بكثيرٍ عن زائدات الوزن بصفةٍ عامة ومعنى ذلك أن الخوفَ من البدانة يحاصر لا فقط زائدات الوزن أو البدينات بالمفهوم الطبي بل معظمُ المراهقات تقريبًا!، وهذه النتائج تتفقُ مع نتائج دراسةٍ أجريت في دولةٍ عربيةٍ أخرى هي الإمارات العربية المتحدة حيث درس الباحثون طالبات المرحلة الثانوية من منطقة العين وكانت نسبةُ زائدات الوزن 16% بينما كانت نسبةُ المتبعين لنظام غذائي مستمرٍّ أو متطرف 9% ونسبةُ المتبعين لنظام غذائي متقطع 38%، وإن لم تلجأ الدراسةُ الإماراتية لتقصي أساليب إنقاص الوزن بوضوح، إلا أن نسبة البدانة بين المصريات أكثر ولذلك بالتأكيد أسبابٌ سنحاول دراستها فيما بعد.
واقرأ أيضاً:
اضطراب القهم العصبي Anorexia Nervosa / اضطراب العقعقة من أين جاء الاسم؟ مشاركة / اضطرابات صورة الجسد Body Image Disorders