صناعة التنحيف Dieting Industry هي واحدةٌ من أكبر صناعات المجتمع البشري الحديث، وكلما اتسم المجتمع بالحداثة زاد حجم صناعة التنحيف فيه، وصناعة التنحيف مثلها مثل أي صناعة في المجتمع البشري الحديث هدفها الذي لا جدال فيه هو الربح، أي أن الربح هو الغاية، فإذا أردنا أن نعرفَ مدى مصداقية هذه العبارات فإن الإحصاءات الغربية كلها تشيرُ إلى أحجام اقتصادية تبلغُ بلايين الدولارات والجنيهات الإسترلينية، فبينما قدرت تكاليف منتجات وخدمات التنحيف في أمريكا عام 1988بحوالي 29 بليون دولار (وهذا الرقم لا يشمل جراحات التنحيف)؛
كما أوضح أحد تقارير السوق التجارية أن التكلفة في سنة 1993بلغت 31.86 بليون دولار، نصف هذا المبلغ تقريبًا كان من نصيب مشروبات الحمية الخفيفة diet soft drinks، وأما نصيب أغذية الحمية (المخفضة السعرات) Low calorie foods وبدائل الوجبات والمُحَليات الصناعية وأقراص تثبيط الشهية فبلغ ستة بلايين دولار، وكان نصيب برامج التنحيف التجارية أو التي يشرف عليها أطباء بليوني دولار، وأنفق الباقي على أدوات وأندية وبرامج التريض، وفي كندا بلغ دخل مراكز التنحيف في عام 1990حوالي 300 مليون دولار، بينما تضاعف عدد الامتيازات الممنوحة من الحكومة لمراكز التنحيف ثلاثة مرات حتى بلغ 500 مليون دولار، بين سنتي 1987 و1990.
كما تشيرُ الإحصاءاتُ إلى أنك في أي يومٍ ستجرى فيه الإحصاء ستجدُ أن ما يقارب الخمسين بالمائة من الأمريكيات يتبعن حميةً منحفةً، وأن النموذج المثالي Model للمرأة الجميلة والتي كانَت منذ عقدين تزنُ ثمانيةً بالمائة أقل من المرأة المتوسطة القوام أو العادية في المجتمع الغربي أصبحت الآن تزنُ 23% أقلَّ من القوام المتوسط، صناعةُ التنحيف إذن هيَ صناعةٌ رابحةٌ جدا في المجتمع الغربي.
بل إن الأعمار التي يبدأُ عندها البنات في اتباع الحمية المنحفة في المجتمع الغربي هي في تناقص مستمر فقد بينت دراسةٌ كنديةٌ حديثة أن 23% من بنات المدارس في الفترة العمرية بين 12 و 18 عامًا كن متبعاتٍ لأحد الحميات المنحفة وأن ثمانين بالمائة من طبيعيات الوزن والطول عند عمر 18 عامًا كن يتمنين لو يزنَّ أقل، فإذا انتبهنا إلى أن ما يقارب الخمسين بالمائة من النساء الأكبر عمرًا يتبعن أيضًا حميةً ما وأن تقدم المرأة الغربية في العمر لا يخففُ كثيرًا من صراعها مع جسدها فإن الأعدادَ تبدو مرعبةً بحق.
ولعل الأكثرُ بيانًا لفظاظة الصورة أن صناعة التنحيف في المجتمعات الغربية (المتقدمة) هيَ صناعةٌ مفتوحةٌ تماما بمعنى أن بإمكان أي شركةٍ أو شخص أن يبتدعَ أو يخترعَ طريقةً وبرنامجًا للتنحيف ويقوم بالدعاية والترويج له بشرط ألا يخرق مواد قانون الغذاء والدواء Food and Drug Act، ولا يطلبُ القانون من تلك الشركة ولا من ذلك الشخص لا إثبات نجاح الطريقة ولا تأكيدَ نتائجها ولا حتى ضمان أنها آمنة، فإذا كانت صناعة التنحيف في الدول الغربية (المتقدمة)على الحال الذي ذكرناهُ من عدم التنظيم وعدم ضمان الأمان فضلاً عن التوحش المتعاظم يوميا لمؤسساتها والمتربحين من خلالها، فما بالكم بالحال في الدول العربية.
وبالرغم من العدد الرملي للبرامج التجارية المتاحة لمن يريدون إنقاص أوزانهم، فإن من المدهش واللافت للنظر ذلك الغياب التام للمعلومات العلمية المحايدة عن النتائج الحقيقية لتلك البرامج، فهناك بالطبع قصصُ وصور نجاحٍ باهرٍ يقدمها لك أصحاب كل برنامج، لكنها بالتأكيد غير معبرةٍ بصدق عن النتائج التي يصل إليها أغلبُ متبعي البرنامج، وهذا هو ما دفع وزارة الصحة الأمريكية إلى مطالبة المسئولين عن برامج التنحيف التجارية بإعلان المعلومات الكاملة للناس عن:
1- النسبة المئوية لمن يكملون البرنامج من من يبدؤون تطبيقه.
2- النسبة المئوية للناجحين في إنقاص أوزانهم من بين من يكملون البرنامج.
3- نسبة الوزن المفقود الذي تتم المحافظة عليه بعد عام وبعد ثلاثة وبعد خمسة أعوام من إنهاء البرنامج.
4- النسبة المئوية للمشاركين في البرنامج الذين تحدثُ لهم آثارٌ غير مرغوبةٍ من الناحية الطبية أو النفسية أثناء البرنامج.
ورغم أن هذه المعلومات موجودةٌ لدى كل مؤسسةٍ من مؤسسات التنحيف إلا أنهم لا يخبرون بها زبائنهم، ودائمًا ما يكتفون بقصصِ وصور النجاح المدهش الذي حققه بعض الأفراد (من ذوي الإرادة)، فأما القصص فتحكى لك عن أفراد لا تراهم وأما الصور فإنها تعبر عن لحظةٍ لا تتكرر وليس هناك ما يثبتُ أن صاحب الصورة ما زال على هيئته التي صوروه فيها.
وماذا عن صناعة التنحيف في المجتمعات العربية:
نظرةٌ فاحصةٌ لمعظم المدن العربية الكبيرة خاصةً العواصم، مبتدئين ربما من العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ستبينُ للناظر كيف أن حيا واحدًا من الأحياء لم يعد يخلو من منشأةٍ خاصةٍ أيًّا كان اسمها صناعتها التنحيف سواءً كانت العباءةُ طبيةً أو رياضيةً أو تجميلية أو أيًّا كانت، هذه الصناعة إذن رابحةٌ حتى في بلاد النامية (عفوا أقصد في كل بلدٍ يوصفُ بأنهُ بلدٌ نام)، فحتى عندنا في المجتمعات العربية كلما اتجه المجتمع ناحية الحداثة زاد حجم صناعة التنحيف فيه وذلك نتيجةٌ تكادُ تكونُ طبيعيةً نظرًا لزيادة ما يسمى بالوعي بالوزن.
والمقصود بالوعي بالوزن هو الوعي بشكل الجسد والصورة المثالية والوزن المثالي للجسد وعلاقة ذلك بالأكل، ومن المفترض أن هذا النوع من الوعي غير جديدٍ على الإنسان، إلا أن التغيرات المتلاحقة والسريعة في الأفكار وفي الصور المختزنة في العقول وابتعاد تلك الصور عن الطبيعي كما هو في حقيقة الأمر (خاصةً بالنسبة للإناث)، وتفاعلُ ذلك مع محتويات الرسائل الإعلامية لكافةِ وسائل الإعلام الحديثة التي تحاولُ إظهار أجمل ما يمكنُ من صور فيختار القائمونَ عليها قدر استطاعتهم صورًا تجيء على المقاس بالضبط، وتفاعل ذلك أيضًا مع الانتشار الواسع لمراكز وبرامج الحمية المنحفة، مع الإلحاح، في وسائل الإعلام وفي الدعايات المصاحبة لبرامج الحمية المنحفة، على تأكيد الارتباط بينَ الجسد الرشيق والنجاح في كل شيء، وقد بينا في الفصل السابق مدى الاهتمام والانشغال بالوزن وكيف يبدو الجسد في المراهقات العربيات، بما يعطينا فكرةً عن الصورة الحقيقية التي ما تزال بحاجةٍ إلى دراسة علمية.
واقرأ أيضا:
علاج اضطراب صورة الجسد / ردًّا على هل اتخاذ الصورة معيارا شِرْك