أن يستمرَّ إنسانٌ على برنامج حميةٍ منحفةٍ أيًّا كانَ نوعها فإن ذلك يعني إنقاصًا متعمدًا ومزمنًا لما يتناوله من طاقة، ولذلك السلوك أخطارٌ عديدةٌ جسديةٌ ونفسية من بينها الاكتئابُ والقلقُ والشعور بالتعب والضعف والوهن والرغبة في الانعزال عن الآخرين، وكلما زادت شدةُ الحصر السعري Caloric Restriction، زادت الأخطار إلى حد التأثير على انتظام ضربات القلب وحتى التسبب في الموت المفاجئ، وبعد فترةٍ من اتباع الحمية المنحفة يفقدُ الشخص الشعور بالجوع كما يفقد الشعور بالشبع، كما يحدثُ اشتهاءٌ مُلِحٌ لأنواع معينة قد تكونُ غريبةً من الطعام أو غيره من المواد التي لا تؤكلُ عادةً، كما يزيدُ الانشغال بالوزن ويضطربُ شعور الإنسان بكيف يبدو جسده أي بصورة الجسد كما يدركها هو.
ورغم أن كل هذه الآثار النفسية والجسدية معروفةٌ ومشتهرةٌ منذ خمسينات القرن العشرين وتعودُ إلى دراسةٍ أجريت عام1950تمَّ فيها تقييمُ آثار التقليل المتعمد للأكل وشملت الدراسةُ مجموعةً من الذين استنكفت ضمائرهم المشاركةَ في الحرب الكورية Conscientious Objectors فتطوعوا لهذه الدراسة بدلاً من أداء الخدمة العسكرية (وكلهم من الرجال ذوي الوزن الطبيعي) واستمرت الدراسةُ لمدة ستة أشهر، وفي خلال الشهور الثلاثة الأولى تركت لهم حريةُ الأكل بصورة طبيعية وتمت أثناء ذلك دراسةُ سلوكيات الأكل الطبيعية لديهم إضافةً إلى إجراء تقييم نفسي لشخصياتهم.
وفي الثلاثة شهور التالية قيدت السعرات الحرارية التي يُسمح لهم بتناولها بحيث يتناولُ الفرد منهم 1600سعر حراري يوميا (أي ما يعادل تقريبًا نصفَ سعرات الطاقة التي يحتاجها الجسد في اليوم)، ونتجَ عن ذلك فقدانُ ما وصل في بعض الحالات إلى 25% من وزن الجسد، وسُجِّلت تغيراتٌ نفسيةٌ شديدةٌ كالاكتئاب والقلق والحصر ونوبات الغضب كما حدثت لبعضهم نوبات أكل شرهٍ واستمرت في بعض الحالات حتى بعد انتهاء فترة الدراسة وإلغاء القيود المفروضة على تناول الطعام.
وبينما أقرَّ معظمُ المشاركين في الدراسة رجوعهم إلى عاداتهم القديمة في الأكل عند تقييمهم بعد خمسةِ أشهرٍ من انتهاء الدراسة، إلا أن الكثيرين منهم ظلوا يعانون من مشاكل في علاقتهم بالأكل فمنهم من وجدوا أنهم لا يستطيعون التوقفَ عن الأكل كما كانوا من قبل عند شعورهم بالامتلاء، ومنهم من بدأ يعاني من توقٍ ملحٍ لأصنافٍ معينةٍ من الطعام، ومنهم كما ذكرتُ من قبل من ظلت تعاودهُ نوبات الأكل الشره، كما أن منهم من تغيرت فكرتهم عن أجسادهم وظلوا يحسونَ أنهم زائدو الوزن واتبعوا حميةً منحفةً من تلقاء أنفسهم، ويصفُ الباحثونَ في تلك الدراسةِ ملاحظاتهم كما يلي:
"لقد بينَ ما حدثَ لأفراد الدراسة أن تأثيرات الحميةِ السلوكية والانفعالية أبعدُ بكثيرٍ مما كنا نتصور، فقد أصبحَ الطعام هو مدار المحادثات اليومية بين أفراد الدراسة ومدار أحلام اليقظة وهدفَ قراءاتهم الأول، وكثيرٌ من الرجال الذين لم تكن لهم أي اهتماماتٍ بالطبخ قبل الدخول في الدراسة أظهروا ولعًا شديدًا بأنواع الأطعمة وقوائم الطعام المختلفة"، وبعد حوالي ستة أسابيع من فترة الحصر السعري Caloric Restriction أبدى 13 رجلاً من أفراد الدراسة رغبتهم في العمل كطباخين بعد انتهاء الدراسة!.
كما أن كثيرين لم يتحملوا الحصر السعري المفروض وأكلوا في السر وشعروا بالذنب بعد ذلك، وقد ظهر عليهم القلق والاكتئابُ كما عانوا من صعوبةٍ في التركيز ورغبةً في الانعزال عن الآخرين، كما حدثَ انهيارٌ عصبي لفردين من أفراد العينة بل إن أحدهم قطعَ طرفَ إصبع يده، رغبةً منه في الحصول على الإعفاء من الاستمرار في التجربة، كما بينت تلك الدراسةُ أن الحميةَ تؤثرُ في طريقة إدراك الشخص لصورة جسده، فبعض الرجال الذين لم يكن لهم سابق اهتمامٍ بأوزانهم أو صور أجسادهم بدؤوا يحسونَ بزيادةِ حجم بعض مناطق الجسد وأظهروا رغبةً في تغيير مظهرها.
وعادةً ما تؤخذُ نتائجُ هذه الدراسة لتعممَ على كل المتبعين للحمية المنحفة مع أن ما بينتهُ الدراسةُ من تأثيراتٍ للحمية على أشخاصٍ غير زائدي الوزن أصلاً لابدَّ يختلفُ عن ما نتوقعهُ في حالة الشخص البدين، فالمنطقيَّ هوَ أن لدى الشخص البدين مخزونًا أكبر من الطاقة، كما أن معدل تقليل السعرات الحرارية اليومية التي تناولها المشاركونَ في تلك الدراسة هو معدلٌ يفوقُ كل أنواع الحمية التي يطبقها الناس عادةً حيثُ يقللونَ فقط ما بينَ 500 إلى 700 سعر حراري يوميا فيتناولُ الشخصُ كميةً من السعرات الحرارية أعلى بكثيرٍ مما حدثَ في تلك الدراسة ويفقدُ وزنًا في حدود 10% فقط من وزنه السابق خلال مدةٍ مماثلة، والمقصود بهذا التعليق هو أننا لا نستطيعُ أن نعمم نتائج تلك الدراسة على حالات البدانة التي تتبعُ نظام حمية طبي وتحت إشراف مختص، وهذه حقيقة وليسَ ذكرها هنا دفاعًا عن الحمية المنحفة، بقدرِ ما هو إحقاقًا للحق، ويجبُ أن لا ننسى هنا هو أن آثار الحمية المنحفة أيًّا كان نوعها كما سنعرف بعد قليل إنما تنتظرُ في فترة المتابعة التي قلما ينتظرها الباحثون.
إلا أن من الثابت الآن أن التأثيرات طويلة الأمد للحمية المنحفة تشمل النقص الغذائي والاكتئاب والغضب والقلق وتقلب المزاج ونوبات الدقر (الأكل الشره) إضافةً إلى اضطرابات الأكل النفسية المزمنة، بل إن مراجعةً شاملةً ودراسةً مستفيضةً لمعظم برامج الحميات المنحفة قد أفضت بالباحثين إلى الاستنتاجين الواضحين التاليين:
1- كل البرامج تقريبًا تظهرُ نجاحًا متوسطًا على الأقل في إنقاص الوزن على المدى القصير.
2- ليس هناكَ دليل على أن ذلك الوزن المفقود لا تتمُّ استعادته على المدى المتوسط أو الطويل في الغالبية العظمى من الأفراد.
إذن فمعظمُ إن لم يكن كل الحميات المنحفة تفشل في الوصول إلى فقدان الوزن المرغوب أو الحفاظ عليه وبعد مراجعة مستفيضةٍ للعديد من الدراسات استنتجَ أحدُ الباحثين أن ما بين 92% و 96% من الحميات المنحفة فاشلة، وبالرغم من ذلك كله فإن صناعة التنحيف في ازدهارٍ مستمر في كل بقاع الأرض، فإذا كان التنحيف أفكارًا فإن هناكَ من يعتنقونها ويدفعون ثمن اعتناقهم لها، وإذا كانَ التنحيفُ بضاعةً فهناك من يشترونها، وإذا كانَ التنحيف انخراطًا في برنامج رياضي أو طبي أو ناتج خلطةٍ بينهما فإن هناك من ينخرطونَ في تلك البرامج وهم مستعدون لتعلم أفكارها وسلوكياتها ومحاولة اتباعها قدر إمكانهم، وكل هؤلاء الشارين والمنخرطين والمستعدين لتغيير أفكارهم وعاداتهم، كل هؤلاء الناس جاهزون إذن لتغيير تعاملهم مع مأكولهم واتباع ما ينصح به المتخصصون، وأهم ما يتم زرعه من أفكارٍ خلال تلك العملية في أدمغة هؤلاء هو أن المسألة مسألة إرادة، وأن من يتميزون بإرادةٍ قويةٍ هم الذين ينجحون في برنامج تنحيف ما، والحقيقة أن مثل هذا الأفكار تبدو منطقية، خاصةً إذا قدم القائمون على المنشأة التنحيفية صورًا ومعلوماتٍ عن الناجحين الكبار بعد اتباع برنامجهم، وأما الفاشلون فلعيبٍٍ فيهم وليس في البرنامج طبعًا!.
واقرأ أيضا:
اضطرابات الأكل والحمية Eating (dieting) Disorders / اضطرابات صورة الجسد Body Image Disorders / من ثقافة التجميل إلى آفاق الجمال
التعليق: طيب إذا لم تكن الحميات المنحفة هي الحل!!
فما الحل؟؟