ليسَ اشتهاءُ السكريات Craving For Sweets اضطرابًا نفسيًا بالطبع، فهوَ ليسَ أكثرَ من عرضٍ يشتكي منهُ بعضُ الناس، وشكواهم تلك هيَ التي تجعلُ طبيب الوزن أو الطبيبَ النفسي يهتمُّ بالأمر، والأصل في اشتهاء السكريات أنهُ طبيعي من حينٍ لآخر، فطعم السكر يرتبط عند كل بني آدمَ باللذة، وقد أكدت ذلك دراساتٌ أجريت منذ السبعينات على الأطفال حديثي الولادة بعد ساعاتٍ من ولادتهم حيث فضلوا الماء المسَكَّرَ على الماء العادي ونحن هنا لا نناقشُ تلك الشهية الطبيعية التي تحدثُ لأي شخص منا من حينٍ لآخر، وطبيب الوزن كثيرًا ما يسمعُ من مريضاته توقهن الملح للسكريات كسببٍ يقدمنه إما لبدانتهن أو لفشلهنَّ في الالتزام بالحمية الغذائية المتفق عليها.
وهذا الشكل من أشكال التوق الملح للسكريات أيضًا ليسَ موضوع مناقشتنا هنا لأنهُ قد يمثلُ رد فعلٍ طبيعيٍّ للجسم في مواجهة الحصر الغذائي الذي يمثلهُ اتباعُ حمية إنقاص الوزن، وأما ما نحنُ معنيونَ هنا بمحاولة فهمه أو استطلاع ما يعرفهُ الباحثونَ عنه حتى الآن فهو ذلك التوق الملح للسكريات الذي يحدثُ بشكلٍ يزيدُ بوضوحٍ عن الطبيعي (بحيثُ يتسببُ في مشاكل تتعلقُ غالبًا بالوزن)، وفي غير المتبعين لحمية إنقاص الوزن، كما سنحاولُ إلقاء بعض النظر على ما يعرفُ في بعض الأبحاث العلمية الحديثة بالتوق الملح للشيكولاتة أو إدمان الشيكولاته، فرغم أن الشيكولاتة نوعٌ من أنواعٍ السكريات إلا أنها تبدو غير بريئةٍ في الكثير من الأحيان لأنها ليست سكرًّا فقط بالطبع، وإن كان السكرُ المخلقُ أو المكررُ في حقيقة الأمر ليسَ بريئًا تمام البراءة كما على عكس ما يوحي به لونه الأبيض، وهذا ما يختلفُ عن السكر من مصدره الطبيعي.
وبعيدًا عن اضطرابات الأكل المختلفة يسمعُ الطبيب النفسي الشكوى من التوق الملح للسكريات في الكثير من حالات الاضطرابات النفسية الأخرى ومنها بعضُ أشكال الاكتئاب غير النماذجي Atypical Depression ، إذ يشتكي المريض أو المريضةُ من توقٍ ملحٍّ لشيءٍ مُسَكَّر، إضافةً إلى مجموعة الأعراض الأخرى التي تميزُ الاكتئاب غير النماذجي (وهوَ نوعٌ من أنواع الاكتئاب غيرُ مفهوم الأسباب بشكلٍ كامل بعد) فيرى الطبيبُ النفسي التوقَ الملح للسكريات كجزءٍ من أعراض الاكتئاب الفصلي Seasonal Affective Disorder، والذي يتزامنُ حدوثهُ مع فصل الشتاء، وفي زملة ما قبل الطمث في السيدات Premenstrual Syndrome (والتي تصلُ أعراضها حدًّا مزعجًا يكفي لتشخيص اكتئابٍ غير نماذجي في نسبةٍ تتراوحُ بين 3% و 5% من النساء في فترة الحيض حسب الدراسات الأمريكية)، كما يحدثُ مثل هذا التوق بعد تعاطي الحشيش (فالتوق للسكريات جزءٌ من أعراض التسمم بالحشيش)، ولننظرْ إلى الحالة التالية ليتضح ما نقصدهُ بالاشتهاء أو التوق الملح للسكريات: اشتهاء السكريات واكتئاب لا نماذجي
الأسبابُ المحتملةُ للتوق الملح للسكريات:
0 يأخذنا هذا المبحثُ في عدة اتجاهاتٍ أولها هو البحثُ عن أسباب اضطراب كزملة ما قبل الطمث في السيدات Premenstrual Syndrome، فبينما اعتبر البعضُ التوق للسكريات وزيادةَ الشهية المصاحبة لسوء المزاج في هذه الزملة ناتجةً عن نقصٍ فعلي في مستوى سكر الدم بسبب اضطرابات أحماضٍ دهنية معينة تسمى بالبروستجلاندين Prostaglandin واعتبر آخرونَ الزملةَ راجعةً للعديد من الأسباب فمنهم من ردها إلى نقص فيتامين ب ومنهم من أرجعها إلى نقص الكالسيوم أو زيادة الصوديوم في الغذاء أو اختزان الصوديوم والماء في الجسد، ومنهم من أرجعها لاختلالات مستويات الهرمونات أو لحدوثِ الإمساك.
إلا أن ما يهمنا هو ما أثبتته مضادات الاكتئاب من قدرةٍ على علاج هذه المتلازمة من الأعراض، إذ بدأت معظمُ الأبحاث من منتصف الثمانينات تشيرُ إلى ارتباط ذلك الاضطراب باضطرابات المزاج وبالناقلات العصبية المختلفة، خاصةً بالسيروتونين، وأهم ما شجعَ على زيادة الأبحاث في هذا الاتجاه ظهور تحسنٍ كبيرٍ في العديد من الحالات التي عولجت باستخدام مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية (الماسا) سواءً في تقليل التوق الملح للسكريات أو أعراض الزملة الأخرى، وما يعنيه ذلك في البحث عن أسباب التوق الملح للسكريات هو علاقةُ اختلال السيروتونين الدماغي بشكلٍ أو بآخرَ بهذا النوع من التوق الملح، لأن إصلاح ذلك الاختلال يؤدي إلى زواله، ولما كانَ من الثابت علميا أن أكل المواد السكرية يؤدي إلى زيادة مستويات حامض التريبتوفان Tryptophan (الحامض الأميني الذي يتشكلُ منه السيروتونين) في الدم في الإنسان والحيوان ومن مستوى السيروتونين الدماغي في الفئران، فقد استنتجَ من ذلك أن التوق الملح للسكريات هو محاولةٌ من الجسد لعلاج الذات Self-Medication من نقص السيروتونين الدماغي.
0 وأما الاتجاهُ الثاني للبحثِ فيتعلقُ بفرضية الشخصية الحساسة للسكر Sugar-Sensitive Personality، والتي يفترضُ فيها أن بعضَ الناس تكونُ حساسيةُ أدمغتهم للسكريات عاليةً بمعنى أن تناولهم للسكريات يعطيهم شعورًا لذيذًا إلى الحد الذي يدخلهم في ما يشبهُ الإدمان للسكريات، ويرجعُ واضعو هذه الفرضية ذلك إلى احتمال وجود اختلال ما في عمليات استقلاب السكريات أو اختلالٍ (أو نقصٍ) في مستويات السيروتونين الدماغية أو في مستويات أو وظائف مادة البيتا إندورفين β-Endorphin، أو تفاعل هذه الاحتمالات فيما بينها بشكلٍ يؤدي إلى استجابةً مضخمةٍ للأطعمة التي ينتجُ عن أكلها زيادةٌ في مستويات السيروتونين أو البيتا إندورفين الدماغية مثل السكريات والشيكولاتة، وزيادةُ أيٍّ من هاتين المادتين في الدماغ يعطي إحساسًا بتحسنٍ في المزاج.
0 وأما الاتجاهُ الثالثُ للبحثِ فيتعلقُ بالتوق الملح للشيكولاتة (وهيَ أكثرُ أنواع السكريات التي يتعلقُ بها التوق الملح خاصةً في الإناث)، والشيكولاتة حقيقةً تحيرُ العلماء حتى أنهم يتساءلون هل هيَ طعامٌ أم عقارٌ دوائي؟، وذلك لأن الشيكولاتة كثيرًا ما تسببُ سلوكياتٍ تشبهُ سلوكيات المدمنين في بعض الأشخاص! وتبينُ الأبحاثُ التي حاولت تفسير ذلك إرجاعهُ إلى خصائص في الشيكولاتة نفسها كالإغراء المُتَعيُّ Hedonic Appeal للشيكولاتة متمثلاً في جمال الطعم(طعم السكر والزبدة واللبن والكاكاو) والرائحة والنكهة بصفةٍ عامة، إضافةً إلى احتوائها على العديد من المواد نفسانية التأثير مثل الثيوبرومين Theobromine وهو أحد العقَّاقير القريبة من عقَّار الكافيين الموجود في القهوة والشاي، كما تحتوي الشيكولاتة على عقارٍ آخر هو الفينيل إيثيلامين(Phenyethylamine PEA)، وهو مادةٌ قريبةٌ من الأدرينالين والدوبامين ومن الأحماض الأمينية التي يتكونُ منها هذان الناقلان العصبيان.
ولعقار الفينيل إيثيلامين علاقةٌ بشعورنا بالرضا والسعادة والإشباع، كما تحوي الدهون الموجودة في الشيكولاتة زيوتًا وأحماضًا دهنيةً قريبةَ الشبه كيميائيا من زيوت الحشيش Cannabinoid-Like Fatty Acids ، إلى الحد الذي أوصلَ أحد المحامين الأمريكيين إلى الدفاع عن موكله المتهم في قضيةٍ تتعلقُ بتعاطي الحشيش والإتجار فيه بحجةِ أن موكله بريءٌ من التهمة وأن نتائج التحاليل التي كشفت وجود مركبات الحشيش في بوله، إنما كانت لأنهُ تناولَ كميةً كبيرةً من الشيكولاتة، وليسَ هذا هجومًا على الشيكولاتة بقدر ما هو فحصٌ لنتائج الدراسات العلمية التي حاولت تفسير أسباب كونها من أكثر أنواع السكريات التي يتعلقُ بها التوق الملح خاصةً في الإناث، فالشيكولاتة لا تحتوي على الكاكاو فقط وإنما هيَ مزيجٌ من الحليب والسكر والكاكاو والعديد من مكسبات الطعم والرائحة وتحتوي ضمن ما تحتويه على العديد من العناصر الهامة للجسم مثل الماغنسيوم والكالسيوم وغيرها.
* ويمكنُ إرجاعُ التوق الملح للشيكولاتة بناءً على نتائج الدراسات لسببٍ أو أكثر من الأسباب التالية، دون إغفال دور الرغبة في الأكل لأجل الأكل نفسه أي دونَ إغفال دور الشره الإرادي لأننا لا نستطيعُ إغفاله:
-1- العلاج الذاتي Self-Medication لنقصٍ غذائي ما مثل نقص الماغنسيوم، أو لتعديل نقصٍ ما أو اختلال في تركيز الناقلات العصبية المسئولة عن تنظيم المزاج أو الجوع أو السلوك القهري بصفةٍ عامةٍ وهذه الناقلات هيَ السيروتونين والدوبامين والنور أدرينالين
-2- العلاج الذاتي لعواقب تغيرات مستوى الهرمونات في الدم في الإناث في الأسبوع السابق للطمث سواءً كانَ ذلك من خلال تأثير هذه التغيرات على البروستاجلاندينات أو على الناقلات العصبية السالفة الذكر، ولعل هذا هو ما يفسرُ كون التوق الملح نوبيا Episodic وأكثرَ حدوثًا في الإناث.
-3- ما تحتويه الشيكولاتة من المواد نفسانية التأثير مثل الثيوبرومين والزيوت القريبة من زيوت الحشيش والفينيل إيثلامين، وما قد تسببهُ هذه المواد من سلوكيات تشبهُ السلوك القهري في المدمنين.
واقرأ أيضاً:
بديل السكر اسبرتيم القاتل الصامت مشاركة / خُدْعةٌ اسمها السكر المكرر / اشتهاء السكريات واكتئاب لا نماذجي